الفن فى حياة الصحرء

'الفن في حياة الصحراء'

بدوى -صورة ترجع إلى عام 1910 -مكتبة الكونجرس

بقلم الدكتور/محسن عطيه

العيش في الصحراء

إن الصورة التقليدية الراسخة في عقل أبناء المدن الحديثة عن «حياة الصحراء »،هي العيش في الخيام والتنقل بالإبل، ضمن حدود غير واضحة، تراعى فقط التحالفات القائمة بين القبائل. وقد ترحل القبيلة ،وتترك موقعها مع ماشيتها في مواسم ،فتهيم في أرجاء الصحراء بحثاً عن العشب والمياه،وعن المكان الأفضل لرعى الأغنام التي يشرب حليبها ويصنع منه الجبن، ومن صوفها ينسج الأبسطة وأقمشة الخيام ،فإنها ثروته. وبدلاً من تأثيث منزل دائم ومكتمل بكل اللوازم مثلما في المدن، تصبح الأولوية للحياة البسيطة،و الجلوس على الأبسطة والوسائد، وتصبح الحياة البسيطة سبيلاً لتعميق التواصل مع «المحيط البيئى .أما المبالغة في اقتناء الممتلكات بالنسبة لسكان الصحراء، فتعوق حرية الحركة والتنقل،مما يمثل حقيقة أساسية لحياتهم. ومن الممكن أن ترسم «صورة ذهنية» عن حياة قبائل الصحراء ، فيها يجلسون ويشربون أكواب الشاى والقهوة، من أباريق على نار ليست بعيدة عن مجلسهم ، ومع القوة تجرى الأحاديث ويتبادلون الأخبار ويتسامرون. وقد تبدو هذه الصورة تجسد شخصية "الآخر"، الذي هو أقل تحضراً، وهنا تفرض الأفكار المسبقة بالقوة، مثل العيش في الصحراء في مناطق «غير دائمة» على رعى الأغنام . إذ أن هذه الفكرة المسبقة تتجاهل ممارسة الزراعة في مناطق صحراوية عديدة .أما المناطق الصحراوية القريبة أو المجاورة للمدن الزراعية فيقوم أهلها بمقايضة منتجات الحليب والصوف والمبادلة بالسلع ، فمقابل الجبن والماعز والسجاد ،يحصل من يسكنون الصحراء على لوازمهم من الأقمشة والمجوهرات والحبوب والبنادق والأرز والشاى والسكر والقهوة.أما الآخرين الذين يعيشون في مناطق لا يجاورها من زراعية فأنهم يزرعون . وفى هذه الأيام تواجه «ثقافة القبائل الصحراوية» بغزو «الثقافة الغربية الحديثة» ،وبتكنولوجيا الاتصالات المتطورة،من الهواتف المحمولة والتلفزيون والسياحة والتجارالمستثمرين،وبالتدريج اندمجت أنماط الحياة الصحراوية بتقاليدها الثقافية المتوارثة، مع السلع والمنتجات المستجلبة من الأسواق العالمية .وكذلك انخرط الشباب من الأبناء في حياة المدينة ،حينما التحقوا بجامعاتها ومعاهدها وعملوا فيها. إلا أنهم لم يطيقوا العيش طويلاً في المدن فهرعوا للصحراء هربا من محاصرة العالم المعاصر.

بدوى فى رحلة صيد بالصقور

تفكيك ثنائية التطور/التخلف

أما مصطلح " التقدم" فهو يتعلق بمسألة تقييمية، فرغم أنه يدل أحياناًعلى درجة التعقد في الحياة أو في الثقافة ،فإنه يتضمن إما مفهوم التحسن أو مفهوم التدهور .غير أن التعقيد المتزايد في الحياة أو في الثقافة ، ليس من شانه بالضرورة أن يبعث على تحسن في نوعها،ولا على التكيف مع البيئة،بمعنى الصلاحية للبقاء.كما أن التعقيد في شكل الحياة لا يتفق دائماً مع التحسن في نوع هذه الحياة ،بالمعنى الأخلاقى أو العقلى أو الجمالى. إذ أن "التطور" و"التخلف" يسيران معاً .فإما أن يقوى بعضهما البعض، أو يقاوم أحدهما «الآخر». وفى مثل هذه الحالات يصبح من العسير تقدير التعقيد أو التبسيط كصفات نقية خالصة ،لأن النمو في ناحية يستلزم النقص في الناحية المضادة. ومن المعروف أنه لم تكن الحياة في الصحراء كلها لرعى الغنم،و التنقل المستمر ، بحثاً عن وفرة الكلأ ومصادر المياه. فرغم أن حياة الرعى في جوهرها أحفل بالتنقل من حياة الزراعة ، "لكنها كانت تتفاوت بين حياة الترحل المتطرفة وبين الحياة المسقرة التى كانت فيها القطعان والأسراب تساق جيئة وذهابا داخل منطقة محدودة."(1) وعندما تجول القبائل البدوية على مقربة من المدن تقتبس سماتها الثقافية ، رغم استبعادها ما يتعارض مع حياة التنقل. وهذا يتيح الحصول على منتجات الحضارة،مثل الأدوات الحديثة والسيارات والتلفزيون،من خلال بيع الصناعات اليدوية البسيطة والجواهر والأبسطة. ولدى بدو الصحراء اهتمام جمالى بالزخرفة، ليس فقط بهدف تحقيق أغراض وظيفية ، أو لتلبية احتياجات الحياة اليومية ،وإنما لإشباع الرغبة في التزيين ،أو التعويض عن صمت الصحراء و فراغ مساحاتها الشاسعة،أو إنجاز معادل بصرى لضوء النهار،عندما يكشف خطوط الروابى وتضاريس الصخور والكثبان الرملية ،وحركة ظلالها وغموض ظلام الليل، مما توفره البيئة ويشعر نحوه بمعان روحية وبإحساس بالسكينة. ورغم أن مقتنيات البدو الرحل الدائمة قليلة، لأن الاحتفاظ بممتلكات ثابتة يصعب على قبيلة "متنقلة ". والعيش في القببلة، رغم كونه لايقوم على أساس الطبقات الاجتماعية ولا يتبع أساليب" بيروقراطية "،مثلما في الدول المركزية ،فإن ذلك لا يبرر" النظرة الدونية" للمجتمع البدوى. إذ ما يعتبر تخلفاً من وجهة نظر"ثقافة مهيمنة" يعد "قيمة "تحظى بالاحترام بالنسبة لثقافة البدو، و"التنقل" في ثقافة البدو قد يكون نتيجة لعشق البدو للعيش بحرية . و البدوى الذى عاش حياته في الصحراء، يعرف كل أسرارها، وأماكن المياه فيها، ويستدل من العلامات التى تركتها آثار حركة الأقدام على الرمال، ويستفيد من النجوم المضيئة في السماء لتخبره عن الطريق الذى يسلكه في أسفاره. و"الجمل" الذي هو وسيلته في السفر يسير بين الكثبان الرملية في طرق وعرة،و يكفيه القليل من الماء،وقليل من العشب، ومن غير ذلك يسيرلعدة أيام . أما الحفاظ على التقاليد والأعراف، فيدل على احترام النظام القبلى ورموزه الثقافية التي توارثوها عبر قرون ، والولاء للقبيلة الممثل في مفاهيم الشرف والكرم والشهامة. ويمكن اعتبار التطورالثقافى قضية «سيكولوجية »بمعنى إجمالى طبيعى، وكذلك تتشكل الأفكارالفردية والجماعية بعلاقتها بالأشياء المادية التى يرغب فيها الإنسان، ويستخدمها مثل الأدوات والمسكن والمأكل والملبس ووسيلة الانتقال. وقد تحظى «البساطة» النسبية للفنون البدوية على تقدير سكان المدن العصريين، على أساس النظر إلى حياة الترحل بوصفها تمثل أسلوبا للعيش يفترض فيه" أن الحرية والمغامرة والقرب الوثيق من الطبيعة ،والبعد عن كل تقاليد ومواصفات مقيدة ،يعد حلما أثيراً لدى عشاق «البدائية» الرومانتيكيين الذين يعيشون بين أكناف حضارة المدن، ويحاول سكان المدن(الحضر) أن يدمجوا في حياتهم شطراً من هذا الأسلوب."(2)الذى يرغب في العودة إلى الحياة البسيطة. وفى الحقيقة ليس من الحكمة النظر إلى كل الثقافات من وجهة نظرمجتمعات المدينة الحديثة-العملاقة.فهناك العديد من الثقافات والبيئات الأخرى المتناقضة، مثل معظم "قبائل البدو" التي ترجع ثقافتهم العريقة وحياتهم وعاداتهم وتقاليدهم إلى زمن بعيد،غير أنه لاينقصها التطورالحسى والروحى والوجدانى،أي الإنسانى، رغم عدم اتباعها لـ"التسلسل الهرمى "الذى يقوم على تعميق «التناقض »بين العنصرين :العقل / الجسد ،من وجهة نظر أن القوة «العقلانية» تكون مهيمنة، واعتمادا على التفسيرالمادى للثقافة الذي يحصر التمييز بين الثقافات على أساس التقدم العلمى ، وكان الأولى في تحليل أي ثقافة التمييز بين "السطحى والعميق".

الماعز ثروة البدو
بدويات يستحضرن الماء من البير- ترجع الصورة لسنة 1933

المرأة/الرجل

هذه النظرة التقليدية لـ"المرأة" التي تصفها بأنها ذات طبيعة نباتية على أساس حبها للاستقرار مقارنة بطبيعة «الرجل» التي تتميز بالحركة والرغبة في التنقل والترحال هي أساس التناقض .أما «المرأة البدوية »فلا تخضع لهذا «النسق التراتبى»، لأنها تظهر صلابة وهي تعمل بجد ومثابرة ، فمنذ لحظة استيقاظها تتوجه برشاقة لتصعد الجبال،وفى التقاط الحطب اللازم لإشعال النار طوال النهار.والمرأة البدويةهى المسئولة عن حمل الأطفال وتجهيز المأكل واستحضار الماء من آبار بعيدة ، كما تقوم بأعمال الغزل والعجن .وغالباً تعمل قسوة الحياة في الصحراء على توحيد العائلة ، وتستلزم تماسكها ، حتى تستطيع البقاء على قيد الحياة. وتتحمل المرأة البدوية الشابة الكثير من الأعباء، فهي قوية ،تعمل في البيت وتنجز كل ما يلزم حياة القبيلة، بل تساهم حتى في القبام بأعمال النسيج والحرف الفنية ،تباشرها على أساس اجتماعى لأن "تقاليد الحرفة المهنية ليست تقاليد فردية . بل هى تقاليد جمعية. وأن خبرة جميع أعضاءالجماعة وحكمتهم يتم بلورتها في شكل موحد"(3) وهي تمارس «مشغولاتها الفنية» من نسيج وتطريزللملابس والمفروشات .فتشعر أثناء ممارسة الفن بساعات من المتعة يتخللها لحظات تفكير، وأخرى تستغرقها في التحدث أوالصمت، كأجزاء من السياق الاجتماعى الواسع. أي أن الأسرة البدوية تقبل استبدال نقاط التمركز ولا تتقيد بالحدود الضيقة التي تؤدى إلى مواقف «الإقصاء» أو «التسلط» أو «التهميش» .ورغم كون الفن ليس هو «الطريق السحرى »للتغلب على أسباب المعاناة في الحياة، انما بوسع الفن أن يقوى الهويات الثقافية والطبيعة الأنثوية على أساس ان أسمى قيمة في حياة «المرأة» هو تحقيق أنوثتها .لأن اختلاف حياة المرأة ينتج عنه مضمون مختلف في منتجاتها الفنية، بما يكفى لرسم تقاليد فنية نسائية ذات ملامح محددة مرتبطة بحسها الأنثوى تجاه الموضوعات و«الاستعارات »و«التطريز». وتفجر الأعمال الفنية جدلاً حول «عاطفة الحب »التى تمثلها الألوان"والحب هو رمز لـ"الحرية" لأنه يقوم على أساس الاختيار ، وكذلك هوثمرة الحب...،ويفهم الحب على أساس أنه المصدرللدهشة والغموض والسرية،وعالمه هو الخيال "( 4)وتمثل فكرة التطريزعلامة فخر للبدوية و هوية صانعها التى فحواها ثقافة بصرية نسوية- بطلهاالصمت - والفن كقوة غير مباشرة ويمثل الطريقة المثلى للتعبيرغيرالتصادمى ،وشعاره توفيرالطاقة.وتعوض الألوان الساطعة- الصاخبةعن الصمت ، وكذلك «سرد التفاصيل» في شكل غرز الخيوط يمنحها بعداً رمزياً يسمح باستخدام الخيال . وبذلك يتم تمثيل الهوية الثقافية عبرالسياق المرئى ،أو من خلال منتجات فنية أو حرفية. ويمثل «الفن» بالنسبة للمرأة البدوية وسيلة «لفضح القيود» التي تواجها في حياتها اليومية،مثل الشعور بالعزلة .وعدم استطاعتها العمل في غير محيط الأسرة والمنزل أو الترحال مثل الرجل ومن غير المقبول في الأعراف البدوية التصريح بمشاعر الاستياء . ولذلك يصبح الفن وسيلة فعالة للتعبيرعن الذات وعن «القوة الأنثوية» وللتخلص من «أزمة الهوية» ،ومقاومة هيمنة الثقافات التي تنكرهم،واكتساب فرصة من خلال الفن، لثمثيل تجربة «الثقافة» عبر فضاءات رمزية للحركة غيرالمتاحة في الواقع اليومى للحياة. وفى الحقيقة أن ممارسة «التطريز والزخرفة» هو نوع من مناصرة العنصرالأنثوى في مواجهة تسلط العنصرالمذكر.أي أن «التزيينية»تشتمل على عنصر أنثوى ."فإن هذه الأنوثة غامضة وغريزية وقريبة جدا من خلق الحياة وأصلها، إلى درجة أن العلم الذى صنعه الرجل قد لا يستطيع أبداً فهمها."(5). وبالنسبةللمنتجات التي تنجزها المرأة البدوية يمكن تمييز ما تتمتع به من عناصرالجدة والنضارة والابتكار في الموروثات التي حولتها لتحف رائعة ومدهشة،بمعاييرأحدث نظريات الجمال . وإذا ارتدت الفتاة "البرقع "فذلك يشير إلى وضع الأنثى بعد سن البلوغ ، كما يسمح لها البرقع بالسير بحرية أثناء التنقل بعيداً عن الخيمة والالتقاء بالأغراب.كما أن للبرقع رمزيته الخاصة و «استعاراته» المرتبطة بتصورات ذاتية للواقع وبقوى روحية ، لها زاويتها المختلفة التي تعكس مواقف وقيم ومعايير ،ضمن «السياق الثقافى »الذى يشمل التقاليد،التى تتطلب إعادة اكتشافها . وأيضاً للبرقع بعده «اللاشعورى»،وبقوته السحرية يتجسد الغموض الذي نستشعره النفس ولا تعيه، وتدفع «الآخر» لمزيد من الرغبة في محاولة كشف الغموض أو «إزاحة» الحاجز،ولاسبيل للالتقاءبالغريب إلا بإسقاط «الحجاب».والألوان المبهرة لأنيقةوالتى تزين بها المراة البدويةتطريزاتها مفعمة بالرغبة وتعكس خيالاً جامحاً، بل تقتحم عالم الأحلام، وتتحتل البراعة مكان البراءة.

البدو فى صحراء سينا
البدويات مع اطقالهن

دلالة أنماط من التزيين

ومن الأنماط التزيينية التي نفذت عبر سطوح الحلى و«الأبسطة» وفى «زركشة» أقمشة الخيام، شكل "اللولب"وفيه ما يشير إلى حركة «الشمس »و«القمر »و«النجوم»، وإلى مسيرة الحياة في «متاهة القدر» . وقد يتطور شكل «اللولب» في نمط «الأرابيسك »مثل انعكاس لفكرة «اللانهائية المتولدة» عن شكل «اللولب» في هيكل "الصدفة"التى ترمز لميلاد الحياة. أما شكل" الصليب" فيرجع إلى مراقبة سكان الصحراء لطلوع الشمس، ودورانها وغيابها،حتى تمكنوا من تحديد" لأربعة نقاط رئيسية .الجمع التصورى باستقامة النقاط الأساسية المقابلة، يتيح رسم صليب ،صورة للعالم ،أو على الأقل رمزاً شمسيا" .(6) وكذلك ترمزالعلاقة المتعامدة للروحية- للرجولة ،بينما الافقية للمادية- للنسوية .وقد يكون للصليب المنقوش في المنتجات الفنية مدلول «سحرى»، أو «رمز شمسى»، أو رمز ثنائى للخير والشر. ومن هنا يستوجب الأمر حل" معادلة الثنائية" ليس على أساس" التسلسل الهرمى" للعناصر المتناقضة مثل: الحضر/البدو، أو الاستقرار/الرحيل، وإنما من منطلق "الثنائية المتكاملة "التى تقر بالعلاقات الثقافية والاقتصادية المتبادلة بين شقى الثنائية . وليس من العدل هيمنة الجانب الأقوى .وتفكيك البنية الهرمية للثنائيات(الرجل/المرأة - العقل/ الجسد) ولا يجوز النظر إلى" الآخر "على أساس أنه أقل تحضراً ،لأنه فقط "مختلف". وتشبه الحركة باستمرار حركة الرمال المستمرة،فى البيئة الصحراوية المتغيرة دائماً وبطرقها الوعرة ولكل ذلك رمزيته. وليس هناك وسيلة لاكتشاف عمق نمط ثقافى أصدق من تناوله من جانب نمو "الرؤية الفنية والجمالية" ، ومن خلال أنماط الزينة . أما أساليب" التزهير"وأنماط "الزخرفة الهندسية " ، فتبهج العين، وتعوض عن فراغ الصحراء، التي هي النقيض للزهور وللبحر.و"الاستعارات" التي هي لغة الفن ، ولها مستويات مختلفة كتنويع على نفس المعنى .وتسمح مناطق الفراغ-الصمت،بمساحة للتثاقف ،أو للانتقال من حدود ثقافية لأخرى ، ومن رواية إلى أخرى، وأنواع مختلفة من السرد ومختلفة التفسير، وإيجاد لحظة حوارية، أو لحظة تعاطف وتفاهم بين عناصر وأنماط القطعة الفنية. والحياة البسيطة البدوية والأقل تكلفا هي" أحب إلى النفوس".(7)والأشياء الأكثر بساطة من الوجهة الجمالية هي أكثر تشويقاً وأكثر قيمة. وتقترن" البساطة "بالشجاعة والبراءة، وكذلك بالنبل وبالتهذيب أى بالجمال ، وكلها صفات تحظى بالاعجاب والتقدير.

فتاه بدوية
برقع -بدو سينا

رمزية الأنماط الجريدية للزينة

عادة يجرى التعامل مع «الزينة» على أساس أنها تمثل الآخر،الذي يمكن تهميشه ، مقارنة بالمفهوم التقليدى للفنون الرفيعة(الجميلة) وإغفال حقيقة أن للفن اهتمامات متعددة، و له أصوات متعددة. وعندما توضع قطعة من "الفنون الزخرفية والتزينية"ضمن السياق الثقافى، يمكن تفسيرها على أساس أنها تمثل نوعاً من إشغال وقت الفراغ، بسبب تميزها بتكرار أنماطها المجردة عدة مرات . وفى الحقيقة أن التكرار يشكل "علامة رمزية " لتوارث التقاليد ، ولنمط الحياة المليئة بالعلامات والإشارات . كما تعكس صفة التكرار طبيعة الأماكن التي لا تتميز بالتنوع الكبير.وترتبط صفة "التكرار" في الشعر ،مثلما يصرح السميوطيقى الروسى "يورى لوتمان"(1922-1993) ارتباطا وثيقاً،"وحين نحلل دور التكرار في «الشعر» يكون منطقيا أن نتوقف بعض الوقت عند مفهوم" التوازى" ،فكثيراً ما يعالج هذا المفهوم عندما يكون الأمر متعلقا بفنية الشعر"(8) أي أن مفهوم التوازى ، هو جوهرى بالنسبة لفن «الشعر.»أما «التوازى» Parallelism فيتعلق بالبنية الإيقاعية التي أساسها تكرار متوالية معينة من الأنماط ،ويعتمد «التكرار» على القافية التي تضمن التوازن.وعند الفيلسوف" أبى حيان التوحيدى"(922-1023 ميلادية) أن «الإيقاع» المتواتر والمتناغم بتوالى الحركات والسكنات ،هو أساس بناء «الشعر». بل إن تلك"الحركات والسكنات لا تتناسب إلا بعد اشتمال الوزن والنظم " (9) ولهذا "الإيقاع " صداه متمثلاً في «الوزن »و«القافية» ونظم تبادلها ومسافاتها.هكذا يتحول المكان بعلاماته وإشاراته، إلى ما يشبه دفتر لارتجال المعلومات البصرية، التسجيلات لآثار الوجود العابر ،قبل ان تمحى ،وأيضا" الزركشة" البدوية تشبه الكتابة على الرمال.ويمكن أن يصبح التكرار تجسيدا للرغبة في التخلص من القلق، ومن الشعور بالملل.وذكر أبو هلال العسكرى في كتابه " شرحاً لمعنى «التوازن العكسى» في تنظيم العلاقات في «الشعر » فيقول:"أن تعكس الكلام فتحصل في الجزء الأخير منه ما جعلته في الأول " (10) والشكل الذي تتحصل عليه في أسلوب «التوازن العكسى» في تنظيم العلاقات" يبدا وينتهى بعنصر واحد،فتبدو الصور كالحلقة التي التقى طرفاها "(11)والعلاقات المعكوسة من الوحدات الزخرفية والتقابلات، تعد تجسيداً بليغاً لمعنى" التوازن المعكوس" الذي يبهج العين بجمعه بين البساطةوالتعقيد والقابلية للتضاعف اللانهائى و«للانتشار »و«الانبساط»،بالقدر الذي يطفو فوق تعقيدات الحياة ويحقق البهجة بمسحة من وقار. والنظرية الجمالية المعاصرة تتقبل «الخام» و«العشوائى »الذى يحررالحساسية من طغيان التوقعات المتحفظة .وليس هناك طريقة لقبول البشر بعضهم لبعض أفضل من التنوع الحيوى لفسيفساء الثقافات، مع تجنب أسباب الصراع الناتج عن التحيزات. و«الحلى» و«المنسوجات» التقليديةالمطرزة بأنماط زخرفية بسيطة، تبدو في عيون المشاهد العصرى اليوم مدهشة .والقول بأن التقاليد تقبل إعادة الرؤية من زوايا غير تقليدية قول" صحيح" بمنطق الذوق الحديث، الذي يقبل إحياءالأساليب(مثل تصميمات أبسطة ميسونى Missoni) إنها التفسير الحديث لأنماط منتجات الحرف التقليدية من السجاد والحلى والأقمشة التي تخلق هندسة مركبة.تمزج بين الألوان الشرقية الدافئة والتراكيب المتعددة الأضلاع الغامضة-المستلهمة بالأنماط التزيينيةالتقليدية،التي تجمع بين الصناعى والطبيعى،وبين القديم والحديث ،كعناصر متناقضة متكاملة بجرأة تحمل لمسة الصحراء .لإن روعة الفن الهندسى والأشكال المتشظية مع الوحدات التي تتماثل ذاتياً ، تتحقق في الاستعارات المستقاة من الخيمة البدوية التي لها أبعادها السريالية. رغم كون الأنماط التي تستخدم في تصميمات عناصر الخيمة البدوية تعكس الطريقة نفسها التي تنمو بها الأنماط في الطبيعة،مثل «قرون الحيوانات» و «قشور المحار» و«اللوالب »و«الشقوق» وأشكال «التماثل» و«التشعب» و«التفرع» و«التموج »و ورغم التطبيقات الهندسية التقليدية للنسب الذهبية ،و"البنيات" ذلت الخطوط الناعمة والسلسة،فعلى النقيض تبدوالأنماط الكسورية شبه الطبيعية توحى بفوضوية ،مثلما أن صورالطبيعة ذات التعقيد الفريد تتيح مشاهدة الأنماط الكسورية ، وتتميز بـ«الخشونة» وعدم الانتظام، على عكس «نعومة» الأشياء التي هي من صنع الإنسان.وبإحساس الفنان يتوصل للعلاقة لجمالية الأكثر جاذبية للثنائيةالمتناقضة المتكاملة :«الأملس/الخشن ». والخطوط التي تنقل الشعور بالحركة وا«لألوان الجريئة» و«الملامس المتناقضة» واستلهام «التحولات »و«التعرجات» و«الحلقات» و«اللوالب»، و«الخطوط المتوازية» و«عمليات الانكماش »و«الالتواء »و«البرم » و«التشابك »وأنماط متكررة مع خلق "تأثير كلى" مدهش وإحساس بنضارة وجدة وتناغم نوبوحدة في خضم التناقضات، يقدم تراكيب جريئة وجذابة.وقطعاً لايطلق على إنجاز فنانة لقطعة مطرزة من القماش عملاً صناعيا ،قد اتبعت فيه خطة مسبقة، أو فرضت عليه شكلاً بطريقة محددة، لأن «العقل اللاشعورى» يتدخل جزئياً أثناء عملية التنفيذ في المناطق الخفية من روح الفنان. ويمكن أن يطلق على عملية التطريز بأنها من أمثلة" الخلق الخيالى". و"الخيال لايبالى بوجود أي حد فاصل بين الحقيقى وغير الحقيقى"(12) وقد يكون الدافع وراء ممارسة مثل هذه الأنشطة الرغبة في الاستمتاع والشعور بلذة بصرية ،وبتأثيرات والألوان والأنماط والأنساق المختلفة . فتستخدم الألوان والعلامات والقيم الملمسية للتعبير عن المشاعر والذكريات. إن الفن إغناء للحياة ،وهما معاً يقويان بعضهما ، واليوم تختار «الحلى» و«الأقمشة» و«قطع الأثاث» ، تبعاً لجاذبيتها ، وقد منحت المواد الخام نسقاً. ويتمثل «التحدى» في إعادة النظر في الأشكال المعتاد رؤيتها،مثل الأشكال الهندسية.

الجمال سفينةالصحراء
ورق حائط بنقوش مستوحاة من الزخارف المصرية القديمة

أنماط الزينة بين الجمالى والنفعى

ومع تأكيدالتمييز بين " الجميل"و"النفعى" سوف ينظر إلى «الزخرفية» ( الهندسية والنباتية والزهرية) على أساس أنها حرفية - نفعية، أي لا ترقى إلى مستوى «الفن» الذي يعبر عن «شخصية الفنان »، ويجسد رؤيته الإبداعية المتفردة،لأن كل المطلوب من المنتج النفعى إنطلاقاً من «التمييز» هو تحقيق شروط الملائمة الوظيفية في الحياة العملية. أما قيمة الفنون في الحقيقة فإنها تنسب إلى تنوعها وتباينها الرائع في الأسلوب. وأن البون الفاصل بينهما مؤقت ومبالغ فيه ،لأن الفرق بين" التقنيات الجمالية والنفعية " فرق نسبى ،فغاية التقنية النفعية عامة،هدفها الحصول على الطعام والملبس والمأوى . وكثيراً ما يدرج «الفن» مع هذة الأمور، فهو «تقنى» ووسيلة «تعبير واتصال»،ويساهم في تحقبق التماسك والتنسيق بين الاتجاهات . وتشترك «الفنون» و«التقنيات النفعية» في مجالات إنتاج الأواني والمنسوجات والملابس والأثاث.وللاستمتاع بالفن يسقط المرء خياله فيه . وهناك مسألة أكثر ضرراً من التمييز بين «االجميل والنفعى» ،تلك هي "أسطورة الليبرالية" التي تدعى «المساواة »بين جميع الثقافات بطريقة أو بأخرى. و«الفن الحديث» المزدهر في المتاحف الفخمة هو أكثر «ديمقراطية» وأكثر انفتاحاً على كل شئ. ويستطيع كل إنسان أن يصبح مبدعاً،كمايمكن لعمل فنى - تجميعى من النفايات ،أن ينافس تمثالا من الرخام أو البرونز، أو لوحة من قصاصات الورق أن تقارن بلوحة لفنان من "عصر النهضة". وإذا كانت الطبيعة مصدرا أساسياً للإلهام في الفن فإن من ينظر للبذور الصغيرة من وراء مكبر سوف تنتابه الدهشة عند اكتشافة النموذج الأمثل للاكتمال ،مقارنة بالكثير من أعمال الفن التي نفذت على عجل.وقد دعت مدرسة "الباوهاوس"فى ألمانيا منذ أوائل القرن العشرين،إلى مبدأ وحدة الفنون وإلى"محو الفروق التقليدية بين الصانع الحرفى والفنان."(13) ومع تتبع تطور"المفاهيم الجمالية "يتضح كيف اتسعت «الهوة» بين "الفنون الجميلة " و"الفنون التطبيقية" منذ بداية القرن التاسع عشر، حينما كان التفضيل الجمالى في ظل «النزعات الرومانسية»، يجرى على أساس المزيد من التعبير عن الانفعالات القوية، وقد منحت الأولوية في الفن للمشاعر والأحاسيس. وكان "جون روسكين "Ruskin Juhn (1819-1900) في القرن التاسع عشر، قد روج لإحياء «الطراز القوطى» في الفن والحرف اليدوية لتأكيد القيم المسيحية والنظم الاجتماعية التي ترجع إلى عصر ما قبل التصنيع ،أي التاكيد على قيمة «الزخرفة الطبيعية اليدوية» كتعبير عن الخلق الإنسانى، والتفانى في جمال خلق الخالق.أما عندما انطلق"هيدجر" في مفهومه عن الجمال الفنى على أساس أن العمل الفنى يمثل إظهار الحقيقة جمالياً،فإنه رأى "عدم تماثل الإبداع الفنى مع العمل اليدوى"ولا تعنى "التقنية" الحرفة.ورغم استخدام الفنان «الحرفة »مع اعتماده في عمله الفنى على «المادة» ،وهو ينتجه بيده،فإنه ومع ذلك يمكن العثور على "الاختلاف بينهما،فمادة الأداة تكون مستنفدة تماماً في تلك النفعية،أى تكون مستهلكة ومتلاشية في الشئ المصنوع أو الأداة." (14)أما «العمل الفنى» فيظهر شيئية الشئ ولا يحجبها.و"يبدو أن نظرية "هيدجر" للفن تعارض الاعتراف بشرعية الزخرفة والديكور،على الأقل بإصرارها على تفسيرالعمل الفنى كحدوث للحقيقة وكشف للعوالم التاريخية أو مثل "شعر تاريخى" (15)ويتحقق هذا الحدوث من خلال الصارع بين "العالم والأرض"(الكون والجسد) بالمعنى الإيجابى . وقد انتقد الفيلسوف الإيطالي "جيانى فاتيمو" Gianni Vattimo (ولد1936) مسألة استخلاص الحقيقة من التجربة الفنية ،وفكرة "هيدجر" عن الجمالية التي تعتبر العمل الفنى "توظيفاً للحقيقة".وكان «مشروع الحداثة» الذي صاغه فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر، يقوم على أساس استقلال الفن، وعلى تحرير القدرات المعرفية في فهم «الذات والعالم»، وفى الرقى الأخلاقى. ورغم سيادة القيم العقلانية مع الحداثة وتأكيد «الفردية» وفكرة «التقدم الإنسانى» في الحياة العصرية ، فمن الجهة الأخرى جرى" تهميش كل ما يمس بصلة بالرغبات الجسدية والخيال والنوازع الطبيعية ." مما استدعى إعادة التفكير في نموذج الحداثة، بقوالبه وأنماطه وقيمه التى تقدر مبادئ «النقاء» و«العقلانية» و«التاريخية» ،من أجل تغيير الاتجاه نحو «عصر النسبية » المتحرر من الزمن الخطى واليومى و ونحو «التنوع »و «التعددية» و«المشاركة الجماعية» و«المعرفة المفتوحة »و«الإبداع» من الواقع المعاش ، دون تمايزات بين الاجتماعى والثقافى ، ودون حدود فاصلة بين حقول الفن. وحتى إذا ما أراد الفنان رسم موضوع "الزهور" فكان عليه من منطلق «رومانسى أو نعبيرى »،أن يجعل من موضوعه ذريعة لرصد صدق أحاسيسه وحالته المزاجية الخاصة. وأيضاً هناك مسألة التمييز بين الأعمال الفنية ،والتفضيل بينها على أساس قوة اتباعها للقياسات العقلية، مما يؤكد الإعلاء من الصفات" الذكورية "فى مقابل كبت العاطفة. ورغم ذلك أظهر الفنانون فى" حركة الفن الحديث "ميلاً لتقدير العناصر"اللاعقلية" في الفن ،لجلب شئ جديد إلى حيز الوجود. وحينئذ تسرب إلى عالم الفن الاستعارات المجلوبة من مصادر خاصة جداً بعالم الفنان.وقد تمرد الفنانون في عصرنا على «القوالب التقليدية» التي تعزز أنماط "الفنون الجميلة"وتميزها عن الأنماط الأخرى من الفن. وبفضل هذا «التمرد» استطاع الفنان أن يحول اهتمامه نحو فهم الأشياء الأكثر شيوعاً ،ويستكشف معانيها،بالقدر الذي يشبع حاجاته الجسدية (الحسية- الغريزية). وفى كل الأوقات تثارالمناقشات حول الفن و الزخرفة أوالديكور أو الحرف ،وعلاقتهما بالسياسة الاجتماعية والاقتصادية.وقد دأب فنانو "الباوهاوس "على إيجاد علاقة حقيقية بين الشكل والوظيفة من ناحية،وبين الشكل والمادة وأساليب الإنتاج من ناحية أخرى ،فأرادوا تقويم المنظومة الصناعية في المجتمع الحديث .وهناك مذهب «الآرت ديكو »الذى استخدم الزخرفة على نطاق واسع في مجالات المنسوجات والأثاث والحلى والتصميم الداخلى وفيه امتزجت أساليب الزينة التجريدية مع الأخرى التشخيصة .وممارسة الفنان لأى حرفة ليس بهدف صنع منتج للسوق «التجارى»، وإنما يصنعه ابتغاء الاستمتاع ، كنشاط يمس عاطفته و يتوافق مع إيقاعه ،ويشعره بقدر من التوازن النفسى ،وكأنه يعزف على آلة موسيقية ،أو يرتجل الشعر .و"بالرجوع إلى الاتحاد بين الحرفة والفن،ولن يكون الفن المثالى سوى ازدهار للعمل ،أو يكون ،كما يقول"روسكين"Ruskin التعبير عن اللذة التي يشعر بها الإنسان العامل"(16)

كليم بمتحف بيروت الإثنوجرافى
افريز زخرفى من العلامة خيكر -مقبرة Senneferالآسرة 18

ثنائية- الفن/الزخرفة

تطورت «الزخرفة» كشكل بحت منذ أشكال سعف النخيل المتناظرةالتى ترجع إلى الدولة مصرية القديمة( الالألف الثالث قبل الميلاد) ومنها انتقلت اليونان(17)، وهي تنبثق من قاعدة واحدة وتنتهى بنهايات مدببة وكانت السنوات المصرية تمثل بواسطة سعف النخيل التي تقدمها الآلهة «بصفة رمزية» إلى الملك في يوم تتويجه.ويستند هذا النمط من الزخارف أصلاً على ملامح الزهور المختلفة ،بما في ذلك ورق البردى واللوتس .ومن بين أقدمأشكالسعف النخيلفىمصرالقديمةوردة تشبه زهرة اللوتس اتخذت شكل بتلات ذهبيةتشبه العلامةالهيروغليفية«آخت»(الأفق)وهي تشيرإلى المكان الذي تشرق منه الشمس وتغرب ،بين جبلين ،والجبال مساكن إلهيةوللمكان الذي يستقر فيه «رع» ليحصل على قسط من الراحة.ومن نقوش سعف النخيل تشكلت العلامة «خيكر» عبارةعن "عقدةترمز عادةإلى الراربطة التى كانت توثق في الماضى السحيق مابين بعض النباتات وبين الدعائم أو السياج . وبمرورالوقت ،أعفى الزمن على هذا المفهوم . وحل محله رمز الارتباط . وأصبح علامة لتعلق الآلهة بمأواها الدنيوى،ونستطيع أن نلاحظ الـخيكر في الكثير من الصور والأشكال والزخارف"(18). أما «زهرة اللوتس »فإنها زينت تيجان الأعمدة المصرية القديمة وانتقلت إلى الأعمدة اليونانية والرومانية، ثم تخللت زخارف «التوريق العربى»(الأرابيسك).وإن «التراتبية »[الميتافيزيقية] في التمييز بين الفن والزخرفة على أساس أن الفن ليس مجرد زينة.أما لوحات الفنان "هنرى ماتيس" فإنها مثال يناقض هذا «التمييز»، وتمثل انتصاراً للزخرفية التي حافظت على مكانتها حتى «العصر الحديث» . وقد تضمنت العديد من لوحات «ماتيس» الوحدات الزخرفية، ورغم حرص «معايير الفن الحديث» على تخليص الفن مما لا يحقق نقائه،فيبدو أن الشكل النقى للفن يكمن في «الزخرفة».أما الاهتمام بالزخرفة على نطاق واسع فيدعو إلى إعادة تحليل النزعة الزخرفية،التي وصلت إلى حد «الولع بالزينة »،مثل "بول جوجان "و" و"بيت موندريان" و"بول كلى" وحتى في «التكعيبية».عندما تتحرر الزخرفة من وظيفتها «التزيينية» لتصبح فناً بحتاً - مستقلاً عن التقنية والوظائف المادية. وقد حرص أغلب الفنانين على حجب اعترافهم بنزعتهم الزخرفية،وكأنهم يتطهرون في عملهم الفنى بطمس العنصر الزخرفى.فرغم إصرار "كاندينسكى" على نبذ النزعة «التزيينية» فإن أعماله الفنية الأكثر نجاحاً ،التي رسمها في مراحله المبكرة،كانت ذات نزعة تزيينية.أي أن الدعوة للتجريدية تحققت من خلال «التزيينية»،ولم يتمكن من الهرب من منطقها.ومع «تفكيك مركزية الشكل» في المعايير الجمالية البحتة للفن الحديث والتى كانت غالبا "شكلية" أي تتعلق بالشكل ، وليس بالموضوع .وذلك يستدعى «تفكيك الثنائية »التى تفترض بميتافيزيقية تراتبية التمييز بين «الزخرفة والفن الجميل ».وتنظر معايير الجمال الحديثة للزخرفة على أساس أنها «زينة» أو «حلية» لكونها لا تعرض «التمثيل» الكامل للشئ ،كعنصر جوهرى،ولكنها مجرد إضافة خارجية،بل هي «زائدة» عما يتطلبه الذوق،فإنها مثل «إطارات الصور» ،أو «أقمشة التماثيل» أو «الأعمد» التي تزين القصور.و"إذا كانت الزخرفةهى مجرد إضافة مثل إطاراللوحة المذهب،بحيث لا تؤثر في إعجابنا بالعمل الفنى" فإنها حينئذ سوف تعوق الجمال الحقيقى، وتعد تبرجاً"(19)وعلى عكس منطق" كانط "الذى يتعامل مع «الزخرفة» كمكملات خارجة عن الشئ ، فتمثل اللاشئ ،ينظر "دريدا" إلى الإطار على أساس أنه يكمل تركيب الشئ «الجميل » وليس زائداً.ولكن إذا بدت «الزخرفة» تتعدى حدود الذوق مثل" إطار الذهب" أي بالمعنى «الحرفى »مجرد إضافة يمكن أن تقضى على الجمال .وقد يصبح الإطار زائدا أو مجرد إضافة ،عندما يكون منفصلاً عن «العمل الفنى» مثل «إطارالذهب »التقليدى.غير أنه قد يقوى موضوع الفن ، وينقله مرة أخرى إلى عالم الأشياء.وإذا استبعد من «العمل الفنى» تمثيل موضوع أو معنى ولم يتمن الأبعاد التاريخية والاجتماعية والسياسية حرفياً ومجازًا ،فماذا يتبقى؟ هل هو الإطار واللعب بالأشكال والخطوط المتجانسة مع الإطار ،أي الشكل؟.ويستخلص "دريدا" حقيقة الإطار الذي هو اساس تشكيل «العمل الفنى».إن تأطير الفن وكذلك« تصميمات ورق الجدران»، و«الأشياء التي تحويها التصميمات الداخلية» يرجع إلى أقدم أعمال الفن .ويمكن فهم وظيفة الزينة على أساس أنها تجذب نظرالمشاهد نحو اتجاه ها ،وترضى ذوقه من ناحية وتوجه انتباهه نحو السياق الكلى للحياة التي ترافقه.أما جمال «قطع السجاد» الغنية بنقوشها ، فتتأرجح دائماً بين مهمتين، إذ تجذب عين من يشاهدها بتصميمها الجميل وترضى ذوقه، ثم تتلاشى في وعيه كخطوة نحو الانتقال في اتجاه سياق الحياة بكامله والذى توجد فيه،وبذلك تمثل جوهر الفن.ويتطلب تفكيك ثنائية «الفن/الزخرفة»، تحويل الاهتمام من «المركز» إلى «المحيط الخارجى»،أي الاعتراف بالطبيعة الزخرفية لكل الفنون.و"اليوم أصبحت الزخرفةأكثر قبولاً، حيث التركيز مؤخراً على الفن المحيطى"(20) بعدما كانت «جماليةالفن الحديث» تميز بين الموضوعات الزخرفية التي توظف في الحرف اليدوية عن الفن الجميل. وفى الحقيقة أن الفن كان في الماضى حرفياً.غيرأن هناك شكل آخر من الفن ، يعكس التفكير في حقيقة الوجود ،ويعكس قوة الفكر أو يحتفل به.والتفكير هو الحرفة التيتعمل على إظهار الحقيقة.كذلك تشمل اللوحة بالمعنى الواسع «زخرفةالغرف »و«الأثاث» و«المفروشات » و«طرز الملابس» و«الحلى». وفى رأى «دريدا» أن الزينة هي مصدر الجمال الحر الذي نادى به «كانط» مثلما هي مصدر «الزخرفة المفيدة» و«غير المفيدة»(الأنثوية) .ورغم «لازخرفية» تاريخ فن الغربن الذي كانت مركزيته التمثيل ،وتجاهل في تفكيره حول «ماهيةالفن» مركزية الزخرفة، لم تكن «الزخرفة في الشرق» إلا الفن ذاته ،فلم تصنع الأشياء في العصور المصرية القديمة أو في الفن الإسلامي كمجرد «حلية» ووسيلة للتأطير، أو الملء ،قابلة للتقليد و التكرار والاستهلاك.وفى كل الأحوال فإن [[وراء ثنائية التمييز بين الزخرفى والفن الجميل [الزخرفية/التعاطف]]] «عقيدة استعمارية»(القرن التاسع عشر) . غير أن الزخرفة تشترط عمليات الاختيار والمواءمة والتعاطف ،مثلها مثل الفن عموما.وللوسامة التي هي مرادف للزخرفة-واللياقةزالملاءمة،الدور المهم في الفن والعمارة .والطابع التبسيطى للزخرفة يدل على معنى الرصانة ،بينما والزخارف الإغريقية[الأيونية والكورنثية] فكانت ذات تاثير زخرفى متصاعد،ولهذه الصفات انعكاساته في المجتمع. فإن الطبقات الدنيا تسكن الدنيا والارضيات الابسط، في حين تعيش الطبقات الأكثر مكانة فوقهم .ومع ذلك فمثلما يطلب من النوع المعمارى أن يكون مرتبطاً بمفهوم اللياقة، يطلب من الزخرفة أن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقاً بالطبقة الاجتماعية وبالوظيفية.ومع «التصنيع »احتلت فكرة الأسرع والأرخص مكانتها ،وأصبح «الوضع الاجتماعى »أكثر صعوبة في القراءة ،وظهرت مشكلة الزخرفة الناجمة عن الثورة الصناعية.

أنماط من الزخارف المصرية القدية
نقوش سقف مقبرة Sennufer من عهد امنحتب الثاني

مصادر :}}

1-توماس مونرو :التطور في الفنون ، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويش وآخرون الجزء الثالث ،الهيئة المصرية العامة1972 الصفحة289.

2-المرجع السابق،الصفحة 294.

3-سيدنى فنكلشتين:الواقعية في الفن ،ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد ،الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر،1971 الصفحة24.

4-محسن عطيه:التفسير الدلالى للفن،عالم الكتب،القاهرة 2007،الصفحة 62.

5-سارة جامبل:النسويةوما بعد النسوية،ترجمة:أحمد الشامى،المجلس الأعلى للثقافة، مصر2002 الصفحة 65.

6-فيليب سيرنج الرموز في الفن - الأديان - الحياة، ترجمة عبد الهادى عباس دار دمشق 1992 الصفحة389.

7-توماس مونرو،التطورفى الفنون، الجزء الثاني ،ترجمة محمد على أبو درة وآخرون الهيئة المصرية للكتاب 1972 الصفحة317

8-يورى لوتمان : تحليل النص الشعرى، بنية القصيدة ،ترجمة محمد فتوح أحمد ،دار المعارف بمصر ،1995 الصفحة 129.

9-الإمتاع والمؤانسة :الجزء الثاني، ضبط أحمد أمين الزين ،منشورات مكتبة الحياة،بيروت (بدون تاريخ)،الصفحة136

10- أبو هلال العسكرى"الصناعتين-الكتابة والشعر ،تحقيق على محمد البجاوى و محمد أبو الفضل ابراهيم،مكتبة البابى الحلبى،القاهرة1952.

11-محسن عطيه :القيم الجمالية في الفنون التشكيلية،دار الفكر العربي ،مصر2000 الصفحة98.

12-روبين جورج كولنجوود :مبادئ الفن ،ترجمة:أحمد حمدى محمود، الدار المصرية للتأليف 1966 الصفحة174.

13-محسن عطيه :آفاق جديدة للفن،عالم الكتب، القاهرة 2005الصفحة 76.

14-M.Heidegger:Being and Time,trans.Joan Maauattie and Edward Robinson,new york,Harper and Row publishers.1962,p. 47

15-Neil leach:Rethinking Architecture,Routledge,New York,1997,p. 147

16-شارل لالو:الفن والحياة الاجتماعية،تعريب عادل العوا،دارالأنوار،بيروت1966 الصفحة24&25.

17- E.H.Gombrich,The Sense of Order,A study of the psyclogy of decorative art ,PHAIDON,London 1984, p. 181

18-روبير جاك تيبو:موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية،ترجمة فاطمة عبد الله محمود ،المجلس الأعلى للثقافة ،مصر 2004 الصفحة140.

19-Jenny Anger: Paul Klee and the decorative in modern art ,Cambridge university press 2004 p. 7)

20-Ibid, p. 10