البرمجيات الحرة/نظام جنو-لينكس
بدأ اسم نظام جنو لينكس بالظهور على الساحة الإعلامية في الآونة الأخيرة بشكل تصاعدي، ولعل أشهر المنتجات التي تعتمد عليه هو نظام الهواتف الجديد من جوجل والذي يطلق عليه أندرويد. نظام أندرويد هو نظام تشغيلي مخصص للهواتف والأجهزة الصغيرة، صُمِّمَ خصّيصاً لمنافسة نظام أيفون من أبل. توجد في السوق حالياً الكثير من الهواتف التي تعتمد عليه والتي تقدمها كبريات شركات الهواتف مثل HTC وموترولا وسوني أريكسون وسامسونج.
لعلَّ فرصة العمل على نظام جنو لينكس على الهواتف هي الأكثر سهولة ووضوحاً، ولكنَّ ما لا يعلمه الكثيرون هو أن نظام جنو لينكس يعمل كالجندي المجهول في تقديم خدماته لمستخدمي الإنترنت ودعم بنيته الأساسية بنظام ثابت وآمن ومستقر وذو تكلفة قليلة. فهل تعلم أن أكبر محرك بحث في الإنترنت محرك غوغل يستخدم جنو لينكس كنظام خلفي لتقديم خدماته؟ وكذلك أكبر شبكة اجتماعية على الإطلاق فيسبوك تستخدم جنو لينكس كنظام تشغيلي لها، وكذلك أكبر متجر إلكتروني أمازون والكثير من المواقع العالمية مثل: تويتر، وفليكر، واليوتيوب، وغيرها الكثير.
ليس هذا فحسب، فلم يقتصر استخدام نظام جنو لينكس على شركات الهواتف وشركات الوب العملاقة، بل إنَّ معظم مواقع الوب تستخدم نظام جنو لينكس كنظام تشغيلي لها، حيث تبلغ نسبة استخدامه 60% من مجموع الأنظمة التي تقدم خدماتها للمواقع، فمواقع المنتديات الحوارية مثل السبلة العمانية وما شابهها تستخدم نظام جنو لينكس لما يوفره لها من أمان عالي وكلفة منخفضة للتشغيل والصيانة.
يعتبر نظام جنو لينكس من أنجح وأشهر الأمثلة لما يعرف بالبرمجيات الحرة، وهي البرمجيات التي يمكن استخدامها، ونسخها، ودراستها، وتعديلها، وإعادة توزيعها بقليل من القيود أو بدون أي قيود على الإطلاق، والتي تعرف بمصطلح ثاني وهو البرمجيات المفتوحة المصدر (Open Source). لقد تحدثنا في المقالات السابقة عن تاريخ ومبادئ البرمجيات الحرة وما تقدمه للعالم الرقمي. فبعد أن بدأ ستولمان في عام 1983م مشروعه الثوري لإنشاء نظام تشغيلي حر ومجاني للجميع وأطلق عليه اسم نظام جنو، شرع في السنوات التالية مع مجموعة من المبرمجين المتطوعين في كتابة الأدوات الأساسية للنظام الجديد، ومع بدايات التسعينات نجحوا في مهمتهم بنتيجةٍ مثيرة للإعجاب، ولكن بقيت جزئية أساسية للنظام الجديد لم يجدوا الوقت لكتابتها وهي النواة. كانت هناك محاولات لكتابتها ولكنها لم تتكلل بالنجاح.
في هذه الأثناء، وتحديداً في عام 1991، بدأ تطوير نواة أخرى كهواية لطالب فنلدي يدعى لينوس تورفالدز أثناء دراسته في جامعة هلسينكي في فنلندا. لقد رغب لينوس بالحصول على نظام تشغيلي يشبه نظام يونكس الشهير على حاسوبه الشخصي، لذا استخدم في البداية نظام مينيكس وهو نسخة مبسطة لنظام تشغيل شبيه بيونكس طورها الأستاذ أندرو تانينباوم لتستخدم في تدريس تصميم أنظمة التشغيل. لكن تانينباوم لم يكن يسمح للآخرين بتطوير مينيكس، وذلك لأنه كان يريد بقاءه بسيطاً وسهل الفهم لطلاب برمجة نظم التشغيل، ممَّا دفع لينوس لكتابة بديل له ذو إمكانيات عالية.
في البداية قال لينوس أنه كتب نظامه الجديد للتسلية فقط وليس لشيءٍ آخر، لذا تطوع لينوس ومطورو نواة لينكس الأوائل بعملهم ليعمل مع مكونات مشروع جنو وأدوات بيئة المستخدم ليحصلوا على نظام تشغيل متكامل وحر. في البداية قرر لينوس أن يسمي نظامه باسم "Freax"، وهذه الكلمة مكوَّنة من Free وFreak والحرف X يدل على يونكس، إلا أنَّ هذا الاسم لم يعجب آري ليمكي صديق لينوس الذي اقترح عليه أن يضع نسخةً من لينكس على الإنترنت وهو تكفل بحساب الـFTP، حيث قام بتسمية مجلد النظام الجديد باسم "Linux"، والذي يقصد به "Linus Minix". تم اختيار البطريق شعاراً لنظام لينكس بناء على اقتراح من لينوس تورفالدس نفسه في إحدى الرسائل التي أرسلها إلى إحدى القوائم البريدية. وبعد اعتماد البطريق كشعار رسمي من أجل لينكس اقترح أحدهم أن تتم تسمية البطريق باسم "Tux" والذي يُقصد به "Torvalds Unix".
كانت هناك عدة عوامل للاهتمام الذي ناله النظام في بدايته من قبل المطورين، منها الترخيص الذي كان يخضع له النظام، حيث سمح للجميع بالمشاركة في التطوير والحصول على شفرته المصدرية بشكل مجاني. لكن العامل الأهم كان التكامل الذي حدث ما بين مشروع لينكس، ومشروع جنو. إذ أن لينكس وفّر النواة التي يمكن أن تعمل فوقها المئات من برامج جنو المكتملة والناضجة. وكانت نتيجة الاتحاد ما بين لينكس وجنو - والذي وافق عليه مؤسس منظمة البرمجيات الحرة ريتشارد ستولمن لاحقاً - ظهور نظامٍ متكامل، بكامل الأدوات والبرامج التي يحتاجها أي مستخدم في ذلك الوقت.
عندما قام لينوس بكتابة لينكس في أول مرة كان يدعم معالجات 386 فقط ولا يمكن ترجمته برمجياً إلا من خلال نظام Minix، ولكنه اليوم أصبح يدعم طيفاً واسعاً من المعالجات والأجهزة، حتى أنه يستعمل حالياً في الأجهزة المحمولة والمدمجة، وكذلك فيما يخص قطع الحاسب والعتاد بكل أنواعه، فقد تطور لينكس بشكل كبير جداً حتى أنه أصبح يضاهي النظام المشهور مايكروسوفت ويندوز وذلك بفضل المتطوعين الذين يأملون بنشر نظام مفتوح المصدر، غير احتكاري.
يتمتع نظام لينكس بدرجة عالية من الأمان والموثوقية. حتى أنه يستعمل في أكثر الأماكن حساسية مثل وكالات الأمن القومية، مما زاد من دعم النظم له وانتشاره، ودعم الشركات المنتجة للبرامج والحلول له، حيث أن مجموعة كبيرة من حلول الشركات المقدمة من IBM وHP ونوفل وغيرها أصبحت مبنية على جنو لينكس. ولأن نظام لينكس يتطلب وجود صلاحيات لتنفيذ أي أمر وبسبب كون الفيروسات تقوم بتنفيذ أعمال محددة وبآلية معينة، فإنه من الصعوبة أن يحصل الفيروس على صلاحية للقيام بعمل تخريبي على لينكس، وهذا بالنسبة للفيروسات الموجهة لبرامج لينكس، أما الفيروسات الموجهة للنواة فإنها تصادف مشكلة التطور المستمر والسريع للنواة مما يجعلها غير صالحةٍ للعمل إلا لفترات قصيرة جداً.
يدعم جنو لينكس كمّا كبيرا من أنواع العتاد، بل إنه يتفوق على كثير من الأنظمة الأخرى في هذه الناحية، فسرعة تطور لينكس (كل ثلاثة أشهر إصدارة جديدة) تجعله يوفر دعماً لقطع العتاد الحديثة بصورة سريعة، كما أنه يدعم قطع العتاد شديدة القدم التي توقفت الكثير من الأنظمة الأخرى عن دعمها. لكن أحياناً يواجه لينكس مشاكل في دعم قطع العتاد التي لا توجد وثائق تساعد على كتابة دعم لها وتمتنع الشركات المصنعة لهذه القطع عن توفير دعم لها على لينكس.
يتوفر نظام جنو لينكس على الإنترنت بشكل مجاني في غالب الأحيان، حيث تقوم الشركات أو حتى الأفراد بتجميع أدوات نظام جنو لينكس مع الواجهة الرسومية والتطبيقات الخدمية في قرص واحد يطلق عليه توزيعة، ومن أشهر التوزيعات المخصصة للمستخدم العادي هي توزيعة أوبونتو، أما أشهر التوزيعات المخصصة للشركات فهي توزيعة ردهات وسوزي ومندريفا.
يتوقع لنظام جنو لينكس وتوزيعاته أن تشتهر خلال السنوات القادمة، وخصوصاً أنه الآن في مرحلة تطوير مكثفة لتسهيل وتبسيط استخدامه للأفراد العاديين بعد أن قضى سنوات طويلة من التطوير ليصبح النظام المفضل للشركات والمراكز البحثية. وخلال هذه الفترة تقوم العديد من الحكومات حول العالم بالتحول والانتقال إلى استخدام نظام جنو لينكس في أجهزتها الخدمية والحكومية والتعليمية، ومن أشهر مستخدمي جنو لينكس من الدول: ألمانيا وروسيا والبرازيل وفنزويلا وكذلك البرلمان والشرطة الفرنسية. كل هذه الدول اتخذت هذه الخطوة من أجل تخفيض كلفة الرخص وكلفة استخدام التقنية بالمقارنة مع الأنظمة التجارية الأخرى، ولعلَّنا نتحدث بالتفصيل عن تجارب هذه الدول في المقالات القادمة. وحتى ذلك الوقت، نترككم في أمان الله.