مرآة الذات – النرجسية
بقلم/ د.محسن عطيه
تعود النظريات حول المرآة وانعكاسها إلى الأساطير. ووفقا للأسطورة الإغريقية،كان "نرجس" شاباً غاية في الجمال،وهام بجماله عذارى أثينا،فأحبته "إيخو" بمجرد أن رأته وتعلق قلبها بسحره. وأراد"نرجس" أن يخلص نفسه منها فانطلق في الغابة لا يلتفت لشئ لأنه لم يجرب الحب،أما هي فاصابها الهم واضمحلت حتى غدت لاشئ. وشاءت الأقدار أن تنتقم لـ"إيخو" المعذبة من الشاب الذي حطم قلبها وأحزنها. "فبينما كان في طراد عظيم،فى يوم قائظ عرج على خميلة ناضرة ملتفة الأغصان، ليشرب من الغدير الصافى الذى يترقرق من تحتها. وما كاد ينحنى إلى الماء حتى رأى صورته في صفحته الساكنة،فبهره حسنها، وأخذ يرمقها بقلب مشوق ونفس هائمة ."(1) وهو لا يعلم أن الصورة التي وقع في حبها ليست إلا ظله وخياله. وعقاباً لما اعتبرته الآلهة غروراً، أصيب بالذهول والضياع حتى هلك. إنها النتيجة القاتلة للنرجسية. هكذا ولدت الصورة مع المرآة فهل كان باستطاعة "نرجس" أن يعرف نفسه لولا أن أفتتن بصورته على «مرآة الغدير». أما بعد أن تيقن الإنسان من أن بذور الفناء يتهددان طبيعته تناثرت الصور وتكاترث، وانغرست المرايا على كل واجهات الإنسان، وتاه خلف صوره ومراياه المرئية منها واللامرئية وانبرى وجوده خلف ألفة وغرابة، ووراء حضور وغياب. هكذا اخذ الإنسان على عاتقه مهمة إعادة تشكيل صورته على طريقته الخاصة . وبميلاد المرآة الصورة ولدت الثنائيات :الأنا /الذات والأنت/ الغير، الجمال /القبح، الألفة /الغرابة، الحضور /الغياب.ويتحدد معنى"النرجسية"على أنه حب الذات المبالغ فيه، الذي يميل للانسحاب عن الواقع. وحب الذات يمثل غطاء لرفض الغير. ويتسرب الخطرالنرجسى ليهدد الفنانين نتيجة لارتباكات "نرجسية" في الحب والنشاط الجنسى التي يعانى منها ،فيدفعه إلى الاكتساء"برداء حب الذات النرجسى."(2)ذلك بالإضافة إلى طبيعة العمل الفنى والموهبة الفنية ،فلا يستطيع برأى" فرويد" التخلى عن مسراته الغريزية،حتى يلجأ إلى" الفنتازيا" وبمواهبه " يستطيع صياغة تلك "الفنتازيا " ليحمل العالم على منح فنه ميزة الشرعية وصدارة المسرة."(3)الفن هو استعادة شئ مدمر والسيطرة على شئ يخشى منهوحب شئ مكروه) الأشياء المدمرة،المكروهة ،التى يخشى منها)طبيعة الشكل الفنى ذاته.وكلما عظم شأن الفنان ازداد اندفاعه الإبداعى، وتحوله إلى هيمنة خلاقة و جمالية .لقد أكد"جاك لاكان" على أن المبدأ المنظم للرمزى على أنه مسألة ثقافية واجتماعية.ولهذه الفكرة دورها في توضيح الجانب الرمزى في نظرية المرآة.
و"إذا كانت النرجسية تدور حول علاقة المرء بصورته،فذلك يبين لنا كيف أن «النرجسية» ليست متخيلة فقط ،لكنها تشمل بعداً رمزياً كذلك."(4) وعموما تتجاوز العملية الرمزية السيطرة الشعورية. ففى «التقمص الرمزى» مع عنصر مثالى لاتقع الذات في أسر الصورة المتخيلة. ولكن تتخذ مكانا في العالم الرمزى. إذ أن علاقة الإنسان بذاته مبنية من الخارج فهو يتعلم من يكون،لأن الآخرون يخبرونه بذلك. واستخدم "كارافاجيو" الظلالِ والضوء.فى رسم لوحة "نرجس"(1597) لإلقاء الضوء على صفة الغرورالناجم عن الإحساس بالنشوة تجاه الجمال الذاتى الذي قد يؤدى إلى إظلام الروح.. عينا نرجس مغلَّفتان بظلالٍ عميقة، ، بينما بصره يحدِّق بثباتٍ في الماء ذي اللون الأسود، بماء نهر ستيكس، وهو نهرٌ أسطورى في العالم السفلي تُنقل عبره أرواحُ الموتى. ويلاحظ في اللوحة التناقضٌ الواضح بين النورِ والظلام في اللوحةِ إذ تصبخ الظلمة عاملاً مسيطراً على اللوحة،مما يعمل بقوة على إثارة العاطفة . وتظل صفحة ماء نهر ستيكس Styx الأسطورى ،الذي ورد ذكرة في كتابات "أوفيد" Ovid سطحا ساكنا ينعكس فوقه صورة "نرجس" الجميل إلى الأبد،تجسديدا لأسطورة "نرجس" الشاب الذي أسلم نفسه للعشق الذاتى ،حتى قاده إلى الفناء .ويكشف "كارافاجيو " في لوحته عن تقابل النقيضين (الحياة والموت) على نحو بصرى،يتمثل في لوحة جميلة ،صممت على شكل «نصفى دائرتين»،النصف العلوى يشبه العين يتوسطها «بؤبؤ »مشع،وتشير الظلمة المحيطة إلى العين الماورائية للخيال.ومن المعتقدات الروحية في ميراث الإنسانية ،أن بوسع المرء «التوحد مع الإلهى»، إذا ما استطاع الجمع بين المتناقضات في عقله الواعى في كل واحد .وها هو "نرجس" في الصورة يتفحص ظله المنعكس على صفحة الماء ،جامعاً بين الثنائيات المتناقضة داخل دائرة واحدة(تمثل خياله) بين كل من النور والظلام والخير والشر.
يعنى التسامى تحويل الفعل لتحريرالطاقة النفسية المكبوتة.ويحقق الفنان رغباته التي أحبطها الواقع مستفيدا من مقدرته على تحويل تخيلاته إلى حقائق من نوع جديد."إذن الفن في مفهومه هو منطقة وسيطة بين عالم الواقع، الذى يحيط بالرغبات غير المشبعة وعالم الخيال الذى يحققها. هكذا تصبح مجالاً لإشباع الحرية اللاشعورية في الخيال، وسوف تتحقق دون حدوث صراع مباشرمع قوى الكبت،أما وجهتها فستكون هدفها استثارة اهتمام وتعاطف الآخرين ."(5) وبذلك يعنى الإبداع كنوع من التسامى الإعلاء بالدافع الحسى المكبوت نحو أهداف لها قيمة إيجابية. ويعتبر"فرويد"أن آلية التحويل Conversion منفذا للطاقة المحتبسة، مهمتها القضاء على التوتر. أما أعمال الفن الرائعة، فليست قيمتها في مجرد التخلص من التوتر،وإنما في تحويل التوترإلى طاقة إبداعية.لأن للفنان قدرة خفية على تطوير أحلامه وعلى صياغة مادة خياله، بل على تحويل اللاوعى الفردى إلى عمل شمولى."إن تحويل الطاقة النفسية "الليبيدو"إلى رموز لم يزل يجرى منذ فجر الحضارة،ويرجع إلى شئ عميق جداً من أصل الطبيعة البشرية. لقد أفلح الإنسان،وعلى مر التاريخ في اقتطاع جزء معين من الطاقة،وحرفه عن الانصباب في مجرى الغريزة،غيرأن الإنسان مايزال في حاجة إلى قوة الرمز التحويلية،من أجل أن تؤدى وظيفتها الإعلائية."(6)
وفى عالم "السيميوطيقا"،فإن الصورة البصرية تمثل مجموعة من الإشارات،حيث تستخدم العلامات والرموز في الفنون البصرية،التي يعثر على منابع أسطورية لتعبيرها الرمزى،وفيها يمكن لكل شئ أن يعتمد على آخر.وبوسع الرؤية الحسية أن تتحول إلى نوع من اللمس،أي تستمتع العين الحسية بتجربة ملمسية.وكان تمثيل الانطباعية للواقع أقرب إلى إلى التجربة الحسية من تمثيل النزعة الطبيعية،بل تعزل العناصرالبصرية في التجربة من العناصرالتصويرية الذهنية."وبذلك يعتمد الفنان الانطباعى في تشييد موضوعه على أساسىالمعطيات الخاصة بالحواس، مما يسمح يغلف عملية الرسم بطابع نفسى آلى يستند إلى اللاوعى.وقد عالج الانطباعيون معالجاتهم لموضوعاتهم الفنية من أجل أن يؤكدوا على التميزات النغمية كطابع تصويرى.وقد اتجهت الانطباعية نحو إحلال القيم البصرية محل اللمسية،أى نقل الحجم المادى إلى السطح ،مما أدى إلى الزيادة التدريجية لغموض التمثيل التصويرى وتعقيده. وخلافاً للانطباعية بمنهجها الاصطلاحى في استبعاد التاثيرالإيهامى للون،من أجل الحفاظ على نضارة اللون وشدته تصورالأشياء بألوان "لاجسمية"، فإن "سيزان" يتبع فكرة"أن أول تعارف لنا مع أي هيئات تشكيلية يبدأ غالبا من خلال حاسة اللمس ،ونحن عادة نتحسس الشئ باليد.وأيضا نحسه بالعين ،..،وقد ندرك شكل وجه أو ثمرة بمجرد تسيير اليد على كل منها، حتى لو كنا مغمضى العينين.وأن رؤية الفنان لا تعنى مجرد الإبصار، وإنما تعنى الإدراك الذي يشتمل على كثير من الأشياء غير المرئية مثل "التنبيه إلى بعض القيم اللمسية أو صلابة الأشياء وأبعادها نسبياً بعضها عن بعض،وحقائق أخرى خاصة بالمكان،لايمكن إدراكها إلا بعد القيام بحركات عضلية،"(7) أي أن كل تجربة خيالية هي تجربة حسية تحولت إلى خيالية.وبوسع الصورة الفنية أن تثير في نفس المشاهد تجارب حسية انفعالية أو تجارب نفسية تتحول إلى تجارب خيالية. وكانت مجموعة لوحات "جبل سانت فيكتوار" للفنان"بول سيزان" (1839-1906) نوعا من الحنين الذاتى لعالم مفقود منذ الطفولة". ولا ريب أن "سيزان "عاد بذاكرته إلى الأيام الخوالى التى قضاها طفلاً مع رفاقه في غابات سانت فيتوار كذروة تجربته في الحياة."( 8) ويمكن العثورفى هذه اللوحات على الذكريات برؤى حسية ومشاعرمبهمة. لقد تخيل سيزان الألوان في مجموعة لوحات "جبل سانت فيكتوار" كأفكار حية،حيث اقترب من إدراك كنه الشئ ذاته مع الأخذ في الحسبان الوعى المتغير للمتأمل. وكان على الفنان أن يمنح الموضوع الذي يرسمه خاصية متسامية. إن تجربة المشاهد للوحات "سيزان" فسوف يكتشف أن ما يراه لايتبع النصر وحده بل يتبع اللمس كذلك . وربما كان اللمس أكثر جوهرية من البصر.غير أن القيم اللمسية في لوحات "سيزان" ليست من نوعية ملامس الأقمشة أو خشونة الأخشاب أو نعومة سطوح المعادن والأحجار، مما يلمس بالأصابع، وإنما هي صفة خاصة بالأبعاد والكتلة والمكان، أي إحساسات خيالية لمسية وحركية مجتمعة،بل وإحساسات شم كذلك. وكان "سيزان"يرسم مثل رجل ضرير،وتبدو لوحاته للطبيعة الصامتة "كأنها مجموعات من الأشياء التى لمسها بوساطة اليديدين، فقد استخدم اللون لا لإعادة استنساخ ما رأى عندما نظر إلى الأشياء ،بل ليعبر – فيما يكاد يشبه رموز الجبر- عما شعرت به يداه."(9)حيث تبدوالأشجار،وكأن الفنان قد تحسسها وعيناه مغلقتان،والكوبرى ليس مجرد لطشة لون،وإنما هي خليط من البروزات والفجوات التي دارحولها الفنان عند تلمسه طريقه. وفى لوحة "جبل سانت فكتوار"يشعرالمشاهد بملمس الأشجار وكأن الفنان رسمها بيديه وليس بعينيه .
ويعتبرمفهوم"المتعة في النظر" scopophilia ترجمة لمصطلح “فرويد” Schaulst الغريزة التي تنمو في مرحلة الطفولة وتتحول بالتسامى إلى نوع من الاهتمام. ويتناول فرويد ظاهرة الاستمتاع بالنظرعلى أنها غريزة من مكونات" النشاط الجنسى" التي توجد لدى الإنسان كدافع مستقل عن المناطق المثيرة للغريزة الجنسية.وفى عملية الاستمتاع بالنظر يتحولالآخر إلى موضوع للهيمنة وللتحديق، وللشغف والفضول. ومن رأى "فرويد" كذلك أن "النرجسية" تساهم في الإبداع ،وفى القدرة على تشكيل الرؤية المختلفة للواقع.و"النرجسية"بمعنى حب الذات المتطرف توجه الطاقة، نحو الإخفاء بارتداء قناع . ومصير" النرجسية" الفناء مثلما فنى "نرجس" Narcissusنتيجة لوقوعه في حب صورته.
مصادر}}
-1درينى خشبة: أساطير الحب والجمال عند اليونان ،الجزء الأول، دار الشؤون الثقافية .آفاق عربية، بغداد1986 ص 121.
-2 د.أي. شنايدر:التحليل النفسى والفن،ترجمة يوسف عبد المسيح ثروة وزارة الثقافة والإعلام ،العراق.1984ص162 .
-3 امرجع نفسه.ص163
-4داريان ليدر وجودى جرفز: أقدم لك لكان ،ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ،المجلس الأعلى للثقافة ،مصر 2002 ص 50.
-5محسن عطيه :الفن وعالم الرمز،عالم الكتب، القاهرة،1996ص34&35.
-6نفس المرجع، ص38.
-7روبين جورج كولنجوود: مبادئ الفن،ترجمة أحمد فخرى محمود الدارالمصرية للتاليف والترجمة 1966ص378.
-8ألان باونس :الفن ألوروبى الحديث ،ترجمة فخرى خليل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1994،ص 50
-9روبين جورج كولنجوود:مبادئ الفن ص1183&184.