لغة الكليم المصري
بقلم /د. محسن عطية
أقدم قطع الكليم
عدلتوفر الثقافة المادية ومنها المنتجات الحرفية، مصادر للمعلومات، لتحديد وفهم طبيعة الحضارات القديمة، من خلال إنجاز المنتجات الفنية.و تزداد أهمية مثل هذه المنتجات مع التفسيرالاجتماعى أو السياسى .ويحتفظ "متحف بولتون " Bolton (ولاية منشستر-شمال انجلترا) بأقدم قطع النسيج المصري من خيوط الكتان، كان قد عثرعليها ضمن حفائر "قرية اللاهون"(الفيوم-5000قيل الميلاد) . وإلى الدير البحرى(غرب الأقصر) تنسب قطع النسيج التى ترجع إلى عهد الملك " تحتمس الثالث"(حوالى 1450 قبل الميلاد)التى أنتجت لغرض «نذرى» وقداشتملت بالإضافة إلى الخيوط ، على مواد غير نسجية مثل «القش» و«الخرز»، معقودة في السداة .وكذلك في متحف مكتبة "فيكتور بلاجوار "(برشلونة -إسبانيا) شرائط وقطع منسوجة من الكتان ،كانت تستخدم في عملية تحنيت المومياوات في مصر قديماً،وعلى بعض سطوح الأواني الفخارية التى تعود إلى عهد ما قبل الأسرات، نقوش تحاكى خطوط النسيج المتشابكة (السداة واللحمة).أما "الكليم" فإنه نوع من الأبسطة المسطحة، التى تصنع بمكونات تبدأ بحلج صوف الأغنام ، ثم يغزل ويصبغ . ويستخدم في صناعة "الكليم" أدوات تقليدية بسيطة ،مثل: المغزل والمشط والمكوك والمقص والكف والنول. وعادة تكون صناعة "النول" من الخشب مع أجزاء مكملة من المعدن. ويثبت في "النول" خيوط طولية (السداة) يشد عليها خيوط أفقية(اللحمة). ويصنع المغزل اليدوى من عصا(جذع)وثقل(فلكة)مثل العجلة الهابطة ،فى الحفاظ على انتظام حركة المغزل وسرعته.وكان النساء يشكلن الغالبية بين المشتغلين بحرفة النسيج ،وصورهن منقوشة على الجدران المصرية القديمة، ويستخدمن النول الأفقى، أما الراسى الأثقل وزناً، فكان يستخدمه الرجال. ومصدر الأصباغ الغنية بدرجاتها من النباتات التى تنمو في البيئة. ويستخدم القرويون «النول الرأسى»- الثابت، أما البدو فيستخدمون "النول" الأفقى - القابل للفك وإعادة التركيب. ويصنع "المشط "من الخشب أو المعدن أو العظم، ومهمته ضغط خيوط "اللحمة" بإحكام. وهناك ما يثبت أن «النول البدائى»، قد أخترع في الألف الرابع قبل الميلاد. والتقنيات البسيطة من النسيج، ترجع في أصولها إلى صناعة «السلال »من السمار. أما القفزة التكنولوجية الهائلة في الصناعات النسجية، فكانت بفضل التحكم في شد خيوط "السداة" وتثبيتها، مع التوصل إلى قدر كبير من الانتظام، لتفادى انحراف مسار "اللحمة" أو انحدارها. إذ أن الشد المتراخي ينتج نسيجاً مهلهلا.
وقد بلغت صناعة النسيج في مصر أوج ازدهارها في العصر القبطي. فتميزت المنسوجات في ذلك العصر بثراء رمزيتها وتنوع موضوعاتها وأساليبها. إذ انتشرت المنسوجات الصوفية (القباطى) في صعيد مصر (أخميم-أسيوط-الفيوم)ومنها أنواع استوحت موضوعاتها من الأساطير الإغريقية، تلك التى ألهبت خيال الناسج بجمال النمط وروعة التصميم. ويحتفظ متحف "دمبارتون أوكس" بواشنطن، بقطعة من نسيج القباطى- الصوفي (القرن الرابع الميلادى)، تصور الإله اليوناني "زيوس" يختطف الأميرة الفينيقية الجميلة "أوروبا" حيث اتخذ هيئة ثور أبيض، بقرون على شكل هلال. وبمتحف الآثار بفلورنسا قطعة من نسيج القباطي زينت بزخارف من وحدات نباتية وأشكال حيونات وطيور محورة عن الطبيعة. مع أنصاف مراوح، وتفريعات، وتشكيلات هندسية مثل الجامات والمعينات ودوائر متقاطعة، وخطوط منكسرة أو منحنية أو مضفرة، وثمار مثل عناقيد العنب، وسلال فاكهة. وقد استخدمت الأصباغ المستمدة أكسيد الحديد الأحمر (المغرة) للحصول على اللون الأحمر أو الأصفر أو البني، ويرجع استخدام الأحمر إلى عصر ما قبل الأسرات. ومن المواد النباتية يحصل على اللون الأزرق من نوع من العشب يعرف بـ"الوسمة"، ويستمد الأحمر كذلك من "الفوة" و"القرطم" وهناك كذلك "الزعفران" للبرتقالى. وترجع إلى حفائر مدينة العمال "بتل العمارنة" أمثلة المنسوجات المصنوعة من شعر الماعز (القرن الرابع عشر قبل الميلاد). وهناك صور "للنول البدائى" موضحة في «رسوم مصرية قديمة»، ترجع إلى آلاف السنين قبل الميلاد. وتميل وحدات زخرفة الكليم القديم إلى «الشكل الهندسى» ،وتمثل رموزا كونية ،ومعان ذات دلالات أسطورية، وعلامات تميزالمكان ومن يعيشون فيه. وعندما توضع قطعة من "الكليم" ضمن سياقها الثقافي ،سوف يصبح من الممكن تفسيرها في شكل «أفكار مترابطة ». والبنية «الرمزية» للكليم لم تتغير بمرور الزمن، رغم التحولات» العقائدية و«الاجتماعية» و«السياسية». ووفقاً للتفسير الأكثر ترجيحاً نحو هذه الظاهرة، أن أصل «الكليم» هو عمل المرأة-الأم، التى تنقل أسراره لإبنتها للحفاظ على «التقاليد الثقافة »و«المبادئ الأنثوية»، بطريقة غير مباشرة، ومعهما «البنية الرمزية» للفكر و«التعبير التمثيلى» للمعرفة. وهدف ذلك تأكيد ثراء جزء لا يتجزأ من الإبداع الأنثوى، لا يتجزأ عن أسلوب التعبير عن «سلطة الطبيعة» على كل شئ. وما يدل على ذلك ظاهرة تكرارالنمط الزخرفى المجرد عدة مرات. ووراء أجمل المنسوجات يكمن تفسير التكرارات في وحدات التصميم عبر السنين ،وكذلك نمطية الأشكال والرموزالتى لها دلالتها في «الأنثروبولوجية»، مثل «حكاية»، أو تعبير عن «فكرة»، أو وجهة نظر، بالإضافة إلى تلبيتها للاحتياجات الجمالية. وتشكل تكرارات النمط الزخرفى "علامة رمزية" لتوارث التقاليد، ولنمط الحياة المليئة بالعلامات والإشارات، أو تعكس «المكان» أو تردد "لحناً موسيقياً" بإيقاع منتظم. هكذا تبدوالبيئة بعلاماتها وإشاراتها مثل دفتر لارتجال المعلومات البصرية. وتشبه زخرفة "الكليم" الكتابة، ولفهم معنى الزخارف وأنماطها المعقدة، يمكن الاستعانة بمضمون "الحكايات" التى تتناول «الكليم» مثل "مرآة" تعكس حياة من نسجه، وحياة المجموعة التى ينتمى إليها. وغالبا ًيصبح" الكليم" بزخرفته تمثيلاً للمرأة وتجسيداً لرغبها في التزيين ولعزيزاً لجمالها، بل تجسيدا لفكرة "الخصوبة" التى ترجع تمثيلاتها إلى "العصر الحجرى الحديث"، وارتباطها بالحياة الزراعية. والمرأة بخصوبتها تضمن استمرارالحياة، وهي التى تنقل مهارات النسج لإبنتها، ومعها ميراثاً ثقافياً كاملا.
قطع الكليم تسرد الروايات
عدلويستفاد في صناعة "الكليم" في مصر من صوف الأغنام، وعادة لا تفرض على الصانع موضوعات، ولا تفرض تقنية للتنفيذ، حتى لا يكون إلا هو ذاته. وليس الجمال هو القيمة الوحيدة لقطع "الكليم اليدوي" بألوانها التقليدية الأنيقة الساطعة، وببراعة أساليب تنفيذها المتوارثة، وببساطة أنماطها «الزخرفية»، إنما هناك كذلك المتعة تأتي من سرد قصة مثيرة عن كل قطعة، وتدورحول اهتمامات حياتية تجسدت عبر تفاصيل صغيرة ملونة. ومنذ حقبة العصر الحجري الحديث ومنذ نسيج الكليم الأول، نفذت عبر خطوطه الأفكار بعفوية والخيالات وسبل المعيشة، فاتخذت شكلاً من عقول أسلافنا ومن عاطفتهم ومعرفتهم. وقد اندمجت المعاني العاطفية مع الحقائق في كل «تحفة فنية»، حتى أصبحت مثل لغة رمزية، تتحدث بطريقة فريدة، ومصدرا للفهم، ووسيلة غير لفظية لنقل الأفكار والتواصل، وللتعبيرعن المشاعر الخاصة نحو الحياة ومعاناتها، على نحو أكثر فعالية من أي وسيلة أخرى. إذ أن ممارسة الفن تحل التناقض بين الفرد والعالم، بل ويعوض الفن عن مشاعر القلق، الناتج عن فقدان رموز بسبب التعرض لاختراق ثقافة أخرى، فأحدثت «أزمة هوية». وتسمح الزخرفة الخيالية بروايات متعددة، وبحلول غير تقليدية، وكذلك بلغة مشتركة بين النساء. وللمثلثات رمزية نسوية وللخصوبة، والمثلثات من أقدم العلامات للدلالة على «المرأة» والنموذج الذى يسهل قراءته. والمربع هو الشكل الرمزي للاستقرار. كذلك فإن الخاصية الأولى لـ"المكان" هي أن يكون مربعاً في مقابل "الزمان" الدائري. وكذلك يرمز «النمط المربع» مثلاً إلى الحدود والشعور بالعزلة، وبالقيود الثقافية التى تفاقمت في الحاضر، مع زيادة الهيمنة من جانب ثقافات أخرى. وكل «قطعة فنية» تمثل نسقاً من الأجزاء المتواءمة/المتباينة مع بعضها البعض، وأنها تشكل بنية تشكيلية لنقل المحتوى/الفكرة الزخرفية، حيث النمط الزخرفي يقود العين نحو النمط الذى يليه في إطار «الإيقاع». ويجتمع في أي قطعة نسيج تنفذ يدوياً العنصران الجمالي والنفعي معاً، ويضاف إليهما عنصر المثابرة الفريدة. وتبدو النباتية رمزا للولادة وللعنصر النسوي في قدرته التوليدية. ويصبح الكليم بمثابة تعبير رمزي عن التجربة الحياتية المقلقة التى تواجه البشر، وجوهرها الثنائية حيث لا "حياة" بدون موت، ولا نهار بدون ليل، ولا "خير" بدون شر. وتفعيل أي شكل من أشكال الطاقة يجري من خلال لقاء بين نقيضين من الطاقات المتعارضة، مثل لقاء النقيضين عبر نسيج الكليم، (التمثيل اللاشعوري للكون) بين خيوط "السداة" (المحور الرأسي) و"اللحمة" (المحور الأفقى). ويصبح مسطح الكليم أرضا خصبة (رمزيا) تلتقي في محيطها الثنائيات، مثل: سداة «مشدودة » ولحمة «متموجة». ومن ثنائيات الأنماط الزخرفية المتعارضة: «الفأس ذو الرأسين» ويشير للتضداد («الذكر والأنثى»، «لفوضى/النظام»، «الظلام/النور».
التفسير الرمزي لزخارف الكليم
عدليمكن تفسير الوحدات الزخرفية التى اتخذت شكل مثلثين متقابلين برؤوسهما، على أنها تمثل "تعويذة" توفر الحماية من الأرواح الشريرة. وكذلك يرمز شكل قرون الكباش لقوة الفحولة. وعندما تتجه قمة المثلث صعوداً، فإنه سوف يمثل "المذكر"، والعكس عندما يتجه لأسفل سوف يمثل "المؤنث". وأشكال"الطيور" تفسير على أنها ترمز إلى فكرة "الطيران" التى طالما استحوذت على مخيلة البشر، وتمثل الرغبة في "الحرية"، كما ترتبط بورود النبأ السار من أماكن بعيدة. وغالباً ترمز الوحدات الزخرفية النباتية "للخصوبة" و"الوفرة". ويشير النمط الزخرفي الثعباني إلى "الميلاد الجديد" وإلى "بعث الحيوية". والمبدأ المتبع في توزيع الوحدات الزخرفية في التصاميم الرمزية "للكليم" يقوم على أساس "منظور سري" متعلق بمشاعر شخصية وبرموز، لا يكتشفها الغرباء. وقد حررت تقنيات نسيج الكليم التعبيرعن "الأفكار" و"العواطف" و"المعانى" من التقيد بالحدود البصرية، وسمحت بمساحة لأساليب "الترميز" و"التجريد". مما ارتقى بصناعة "الكليم" إلى مستوى الإبداع الفني الذي بوسعه، أن يعبر عن الثقافة والحياة. وتعرف تقنية "الكليم" بالنسيج المشقوق طولياً، حيث تترك بين مجموعتين ملونتين على "الأسداء" فجوة يعاد لحمها مما ينتج عنه تشوه للون المجاور، والأنماط المائلة من التصميم تقلل من الشقوق العمودية في «الكليم »، مما ينتج عنه أنماطا جريئة تسمح للنساج بالاستمتاع بممارسة إبداعية أكثر حرية. ورغم «التصميمات النباتية »التي غلبت على نمط زخارف الكليم، إلا أن الوحدات النباتية خرجت في النهاية ذات طابع هندسي. وقد ظلت أنواع الكليم اليدوي الذي استعملت في تلوينه الصبغات النباتية، بزخارفه الجميلة، "وكانت النماذج القديمة من الكليم المصري تعد من أرقى الأنواع في الأسواق العالمية."(1)
إعادة الصياغة برؤية معاصرة
عدلواليوم يبدو «الكليم» بأنماطه الزخرفية البسيطة، في عيون المشاهد العصرى مدهشة.وحقيقة قابلية التقاليد لإعادة الرؤية من زوايا غير تقليدية " صحيحة" بمنطق «الذوق الحديث»، الذى يقبل إحياءالأساليب .وغالباً ينتج عن إعادة صياغة الأنماط التقليدية من "الكليم " نوع طابعه هندسى مركب. وفيه تمزج بين الألوان الشرقية الدافئة ،والتراكيب المتعددة الأضلاع " الغامضة" والمستلهمة من الأنماط التقليدية،التى تجمع بين "الصناعى والطبيعى"،وبين "القديم والحديث "،كعناصر متناقضة متكاملة بجرأة .وتمنح" الوحدات الهندسية" لمسات من الروعة عندما تختلط مع «التزهيرات »والأشكال «المتشظية »التى تتماثل ذاتيا . وتتحقق في الاستعارات المستقاة من البيئة ،وقد عبرت عوالم الخيال. ورغم كون الأنماط المستخدمة في تصميمات" الكليم "تعكس الطريقة نفسها التى تنمو بها الأنماط في الطبيعة،مثل: "قرون الحيوانات"، و "قشورالمحار" و"اللوالب" و"الشقوق"، وكذلك تتبع ظواهر:" التماثل"، و"التشعب" و"التفرع"و"التموج"و"الكثبان" ، وأيضاً تطبق المبادئ الهندسية التقليدية «للنسب الذهبية»، و"التراكيب" ذات الخطوط الناعمة والسلسة،فإنها على النقيض من ذلك، توحى بأنماطها «الكسورية»- شبه الطبيعية ، بفوضوية و عشوائية، مثلما تجرى في الطبيعة، وبتعقيدها الفريد.وتتميز تلك الأنماط بالخشونة وعدم الانتظام،على عكس نعومة الأشياء التى هي من صنع الإنسان.ويتوصل الفنان بإحساسه للعلاقة لجمالية الأكثرجاذبية للثنائية المتناقضة المتكاملة :الأملس/الخشن . والخطوط التى تنقل الشعور بالحركة والألوان الجريئة، والملامس المتناقضة ،واستلهام التحولات، والتعرجات، والحلقات واللوالب، والخطوط المتوازية، وعمليات الانكماش والالتواء ،والبرم والتشابك .وأنماط متكررة مع خلق "تأثير كلى" مدهش وإحساس بنضارة وجدة وتناغم وبوحدة في خضم التناقضات، يقدم تراكيب جريئة وجذابة. وعادة لا يتبع في نسج قطعة الكليم أصول الصناعة الميكانيكية باتباع خطة مسبقة بدقة، أو بفرض شكل بطريقة محددة، لأن" العقل اللاشعورى" يتدخل في العمل اليدوى جزئياً في عملية التنفيذ في المناطق الخفية من روح الفنان. وفى الواقع يعد نسج الكليم من أمثلة" الخلق الخيالى". الذى" لايبالى بوجود أي حد فاصل بين الحقيقى وغير الحقيقى"(2) وقد يكون الدافع وراء ممارسة مثل هذه الأنشطة الرغبة في الاستمتاع ، والشعور بلذة بصرية،وبتأثيرات والألوان والأنماط والأنساق المختلفة . فتستخدم الألوان والعلامات والقيم الملمسية للتعبيرعن المشاعر والذكريات. إن "الفن" إغناء للحياة ،وهما معاً يقويان بعضهما ، واليوم قد منحت المواد الخام نسقاً،ويتمثل التحدى في إعادة النظر في الأشكال المعتاد رؤيتها،مثل الأشكال الهندسية.هكذا ومنذ زمن بعيد ظل "الكليم" يمثل تجربة تواصل حيوية ومدهشة بين الأجيال، تعكس عالماً له تقاليده ودلالاته . وما تزال أنواع من "الكليم "تنتج بحيوية وتنبض بالحياة ،بأشكالها وأالوانها الجميلة - المنسجمة ،تتحدث بلغة صامتة تدهش من يشاهدها ،مثل لوحات جدارية- مجردة.ومع ذلك فقد تغيرت وظائف "الكليم"مع تغير الظروف الثقافية والاجتماعية، وغلب على أهميتة القيمة الاقتصادية للسوق، ومعيار الإنتاج الآلى والسريع.
جمال الكليم
عدللا تكفى النظرة السطحية لأنماط الزخرفية الهندسية أو النباتية لقطعة "الكليم "، فمن المحتمل أن تشتمل على عدة مستويات من التفسيرات متزامنة ، وقد تفهم على أنها تمثل «استعارات»، أو«مجازات»، أو «رموز» . ويصعب إدراك الأنماط الزخرفية" دون اللجوء إلى اصطلاحات مثل :"التجريد" أو "الأسلبة"، ،أي مفاهيم مجردة تقود الانطباعات البصرية إلى مستوى دلالى بالشكل الذى يجعلها تتلاشى،لأنها ذات «غايات كونية» للوظيفة البصرية. وقد تطورت "القيم الزخرفية" بتحويل أي شكل إلى شئ آخر،يختلف عن مرجعيته الأصلية.ويمكن تقدير القيمة الجمالية لـ"الكليم "انظلاقا من المتعة المحسوسة أثناء المشى عليه ،أو عند النظر إليه معلقاً داخل متحف .وقطعاً تنتج الأشكال المتناظرة عن الممارسة الحرفية.أى أن للحرفى" المسؤولية الحاسمة والأصيلة في إبداع قبول وسلام ومتعة حسية ، حول النشاطات الإنسانية وليست مسؤولية تمرير رسائل قوة وشرعية وعقيدة أو إيمان." (3)وما يضمن القيمة الجمالية والنفعية "للكليم" هو نمط اجتماعى من التوازنات اللامرئية التى تجعل القابل للتعبير معبر عنه ،ذلك ان التعبير مباشرة يستلزم إبداع واقع أو حقيقة . ومنذمطلع القرن العشرين ،ومع تطور حركة الفن الحديث ،اتسعت دائرة النزاع حول علاقة الحرف بعالم الفن الرمزى وبين" الزخرفية" و"التعبيرية". حيث النظرة المتطرفة تتعامل مع الزخرفة على أنها مجرد زينه زائدة .وكان" كليمنت جرينبرج " Clement Greenberg في الأعوام من 1940 وحتى 1967يستعمل تكراراً مصطلح"الزخرفية"فى كتاباته النقدية في الفن، بغرض مناصرة "التجريد "المستمد من"التكعيبية". ويرجع التمييز بين "الزخرفيية "و"الفن التجريدى الحديث "فى نقد "جرينبرج " إلى التمييز التقليدى بين "الفن "و"الحرفة" ، كنزعتين متعارضتين.أما الإعلاء من معيار "النقاء" في العمل الفنى، فيوظف في الوقت نفسة لخدمة التمييز بين "الفن والحرفة " ويخضع لمفهوم" التسلسل الهرمى" للفنون. وفى الحقيقة ليس الفن عالماً منفصلاً عن عالم الحرفة ،وهما لا يعيشان في جزيرتين منعزلتين،بل يمثلان جانبى كل عمل إبداعى.ويقصد بـ"الحرفية" ،الانضباط والممارسة بمهارة وإتقان. و"الحرفة" أداة لاستكشاف الأفكار الجديدة، وللتعبيرعن العواطف المعقدة. والفن يقوم على أساس لحظة الاتصال بين شخصين (الفنان والمشاهد) وهي لحظة لايمكن قياسهااستناداً إلى معايير" الجودة والرداءة"،لأن الفن هو رأى شخصى . ودائماً يبحث الفنان عن سبيل للتعبيرعن ذاته. وقد يصبح «النسيج »الوسيلة الأفضل للتعبير عن المشاعرالنابعة من الأعماق، أكثر من "اللوحة والتمثال"(الفنون الجميلة) والفنان هنا يستخدم الخيوط ،بدلاً من الطلاءات للتعبيرعن أفكاره .وفى الحقيقة أن "الفن"هو السبيل للتخلص من القلق ومن الشعور بالملل، ولتحقيق السعادة.و«النظرية الجمالية المعاصرة» تتقبل «الخام »و«العشوائى» الذى يحررالذوق من طغيان التوقعات المتحفظة .وليس هناك طريقة لقبول البشر بعضهم لبعض أفضل من التنوع الحيوى لفسيفساء الثقافات، مع تجنب أسباب الصراع الناتج عن التحيزات.ويمكن" لجمالية المنتج اليدوى" أن تحصل على التقديرالحقيقى، وأن يحدث التفاهم بين الثقافات وفى إطار انعكاسية الفهم ، من منطلق أن للفن اهتمامات متعددة ، وعلى أساس أن له أصوات متعددة.
جمال النمط الهندسي
عدلتتطلب طبيعة عملية النسيج إذا ما أراد النساج أن "يحكى" أنماط أشكال الزهور والطيور والحيوانات على نول "الكليم" ا تحويل الخطوط المنحنية إلى هيئات الأشكال الهندسية والتناظرات والنسب البسيطة. وكانت قد أصبحت «صناعة السلال» مصدراً لمعظم الزخارف الهندسية التى انتقلت إلى عالم الفن ،حيث ستخدمت فيها عملية التضفير بسيقان البوص المرنة، وتفترض إنتاج أشكال معقودة بانتظام ،وبزوايا محددة حول مركز.وكانت قد غلبت على أساليب الفن العالمى في القرن العشرين وبخاصة التجريدية نزعة نحو الأنساق الرياضية.وتستند هذه النزعة الرياضية إلى جذور الثقافة الغربية وضمن ما ذكره الفيلسوف الإغريقى" أرسطو"قوله:"أن الأشكال الأساسية للجمال تنحصرفى النظام،والتماثل،والإحكام والضبط."(4) وقد كان أساس النمط المثالى للتعبير في «الفن الإغريقى »،عقلى ورياضى، ولذا أصبح جوهر «الفن الإغريقى» التناسق الهندسى والعددى .وقد ذكر عن سقراط قوله " جمال الأشكال في نظرى هو في الخطوط المستقيمة والمقوسات والمسطحات ...،هى جميلة دائما ومطلقا ."(5) وفى الحقيقة أن لجوهر نمط «الفن الهندسى» أصول كذلك في الفن البيزنطى والإسلامي. ومن شأن النزعة التى تدفع الإنسان لخلق عالم من القيم المطلقة ،أن تعلو على عالم «الظواهر البصرية العرضية». إذ ما أراده الفنان بنزعته الهندسية هو ترابط الأشكال أوالألوان في الفراغ الذى يحويها، بطريقة «هندسية-اختزالية» . أما «الشكل الهندسى» فلا يمكن أن يكون جماله هو نفس جمال الشكل الطبيعى. لأن للخط الهندسى تأثير متحكم ، وهو يولد النظام الصارم والسلطة والاحساس باالبرودة. وتشبه قمم المثلث ورؤوسه ثقوبا في الفضاء، ويمثل والشكل المستطيل التألق الصريح. وعندما أراد "الفنان التجريدى" في "العصرالحديث"التوصل إلى تجسيد فكرة النقاء،استخدم الألوان والأشكال المجردة القوية التخطيط وبالسمات «التزيينية» بقوة حيوية وبثقة، وكأنها «أنغام موسيقية» تشكلت من خطوط مستقيمة وأقواس،ولها خصائص «روحانية» تؤثر على المشاهد.وقد رسمت الأنماط الهندسية ومنها «المربعات» في لوحات الفنانين لإثارة معانى ذهنية،والإيهام بالحركة من خلال الفن البصرى . والنمطان الأساسيان في الفن هما ،الهندسى والعضوى"والحقيقة أن هذين النمطين قد ظهرا دائما معاً،واستمرا متلازمين على مر تاريخ الفن.(6)ويعتبر «المربع » لدى الكثيرين نموذجاً للتوافق المحكم الدقيق، بل يمثل إعلاء «للعقل» على المادة.ويمكن الكشف عن "الطابع الهندسى" السائد في الزخارف الإسلامية "وغالبا ًيصبح المربع في مثل هذه «الزخارف الهندسية »العنصرالأساسى في التخطيطات المعقدة. ولقد أدرك «الفنان الإسلامى »التحولات التى ينتهى إليها شكل «المضلع» في «الدائرة»، حيث نجد «الدائرة » تمثل النتيجة اللانهائية لتحولات «المضلع »،والشكل الذى ينتهى إليه المربع ،فرغم كون «الدائرة» تعد شكلاً مكتملاً ونهائياً إلا أنها في نفس الوقت ،تعد الشكل الولود الخصب،الذى يتضمن العديد من الأشكال المشابهة،والتى تختلف عنه،فهو شكل دينامى، تتمثل فيه «حركة الطبيعة والكون». وذلك ما يفسر ميل «الفنان الإسلامى» لأن يحول في رسومه شكل «المربع» إلى «الدائرة» ،أو يوحد بينهما،إذ هما يمثلان العلاقة بين النموذج الأول في عالم الأشكال والنموذج النهائى في ذلك العالم."(7) ولم تكن النقوش العربية الرشيقة وأشكالها الهندسية التى تستوحى قواعدها من قواعد الرياضية،إلا تكرارا للموضوع الرئيسى وهو الرغبة في حل معادلة اللانهائية،وتحقيقا للنزعة الفطرية.وفى مجال الأدب الإسلامى حرص الشعراء على تحقيق عنصر «الإيقاع » بقوانينه الجمالية التى تستهدف المتعة الحسية.ويرتبط مفهوم «التناسق» في «جمالية الفن الإسلامى » بالرقة والنعومة والصفاءوالتماثل.
قائمة المراجع
عدل- محسن عطية: الفنون والإنسان، عالم الكتب، القاهرة 2010 الصفحة147.
- روبين جورج كولنجوود: مبادئ الفن، ترجمة: أحمد حمدي محمود، الدار المصرية للتأليف 1966 الصفحة174).
- أوليج جرابار: كيف نفكر في الفن الإسلامي، ترجمة:عبد الجليل ناظم وسعيد الحنصالي، دار تويقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب1996 الصفحة116.
- محسن عطية: آفاق جديدة للفن، عالم الكتب، القاهرة 2005 الصفحة 70.
- المرجع نفسه: الصفحة86.
- المرجع نفسه: الصفحة82.
- محسن عطية: القيم الجمالية في الفنون التشكيلية، دار الفكر العربي، 2000 الصفحة 95.