علم الاجتماع/علم الاجتماع وفوضى الاجتماع

علم الاجتماع وفوضى الاجتماع

عدل

بقلم د أكرم حجازي

" .... إن الولايات المتحدة تدعو العالم إلى نظام دولي جديد... ". هذه هي العبارة المركزية التي نطق بها الرئيس الأمريكي جورج بوش في أول خطاب له بعيد انتهاء حرب الخليج الثانية (1991) بأيام. ومنذ ذلك الحين وهي تثير الفزع، ولا شك أن أشد ما يثير الفزع هو محاولات الولايات المتحدة فرض ما بات يعرف بالعولمة، هذا المصطلح الذي يتشكل دون أن يتمكن أحد من تعيينه أو التنبؤ بالمدى الذي يمكن أن يصل إليه.

ولا ندري: أية مكانة سيتبوؤها المجتمع والدولة في ظل تصاعد ضغط العولمة؟

ولا: العلاقة التي سيجري التعبير عنها بينهما في ظل التحديات التي تفرضها العولمة على كليهما؟

ولكننا كسوسيولوجيين نتساءل: كيف تعامل علم الاجتماع مع ظواهر مثل المجتمع والدولة؟ وما هو الدور المنتظر منه والمشتغلين به في ظل ظاهرة السوق؟

تهدف هذه المقالة عبر محورين إلى:

الإحاطة بعجالة بالكيفية المنهجية التي تصدى بها علم الاجتماع للتحولات الحضارية الكبرى في العالَم الاجتماعي ماضيا وحاضرا معتمدين في ذلك على بضعة من رواد السوسيولوجيا ممن شكلت إسهاماتهم علامات فارقة في تاريخ النظرية الاجتماعية أمثال ابن خلدون وكارل ماركس وإميل دوركايم وتالكوت بارسونز وجورج بالاندييه وألن تورين وماكس فيبر... إلخ

تلمس قدرة علم الاجتماع على مجابهة الظواهر المستجدة.

المحور الأول: إشكالية المنهج في علم الاجتماع

عدل

إن الحديث عن علم الاجتماع هو في الواقع حديث عن المنهج إلى حد لا بأس به. ولعمري أننا إزاء إشكالية رافقت ميلاد السوسيولوجيا حينا من الدهر ولما تزل منذ ابن خلدون وإلى يومنا هذا. ولو دققنا في تاريخية العبارة الشهيرة" العمران البشري والاجتماع الإنساني" التي هي:" علم مستنبط النشأة... والكلام فيها مستحدث الصنعة " لوجدنا أنها في سياقها وحقيقتها ليست سوى تقنية منهجية في كتابة التاريخ بأسلوب خلدوني مبتكر. فمنذ عهد " المقدمة " لم تعد كتابة التاريخ سردا للوقائع والأحداث أو الإخبار عن العمران والأحوال. ولئن كان التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار فهو عند ابن خلدون " في باطنه نظر وتحقيق ".

لا ريب أن هذه المنهجية نقلت علم التاريخ من طور التزييف والنقل واللاموضوعية إلى طور منهجي جديد يعتمد المشاهدة والقياس والتثبت وإعمال العقل، وهي تقنيات عبر عنها ابن خلدون بـ" المطابقة " كقانون " في تمييز الحق من الباطل في الإخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه...هذا هو غرض الكتاب الأول من تأليفنا ". هذا ما يصرح به ابن خلدون، وهو ما حدا به إلى لوم المؤرخين ومعاتبتهم بل إلى توجيه نقد لاذع وصارم لمن مارس منهم كتابة التاريخ عبر النقل الأعمى ولمن زلّ إرضاء لذاتيته أو انحيازا لهذا الطرف أو ذاك في تزلف صارخ للسلطة ميز كل عصر ومنها عصر ابن خلدون الذي اشتهر بالعفن السياسي في بلدان المغرب العربي خاصة.

والآن، أليس حري بنا أن نتساءل عما إذا كان ابن خلدون ربما يكون قد اكتشف منهجا وليس علما؟ أو على الأقل بالقدر ذاته الذي اكتشف به علما؟

إن الحد الأقصى للإجابة يتجرأ على اعتبار السوسيولوجيا هي في الحقيقة علم في المنهج موضوعها "العمران البشري والاجتماع الإنساني ". وهذا الاعتبار ليس مقامرة بقدر ما يعبر عن حقيقة إشكالية معقدة نشأ علم الاجتماع الحديث بين ظهرانيها ابتداء من أوجست كونت الذي خاض صراعا مريرا لتأكيد فعالية مناهج التفكير الوضعية على حساب المناهج الماورائية والتجريدية ووضعه أسس ومعايير لسلامة البحث العلمي وعلامات فارقة لقياس التقدم الاجتماعي، وحتى إيميل دوركايم الذي أخذ على عاتقه وأنصاره تثبيت علم الاجتماع ومجابهة أطروحات المدرسة النفسية التي أنكرت وجود ظاهرة اجتماعية، فما كان منه إلا التحصن بالأدوات المنهجية لاسيما الإحصائية منها والتي تمكن بواسطتها من هزيمة المدرسة النفسية وتوجيه ضربة ساحقة لها عبر بحثه "الانتحار".

أما الحد الأدنى فيقر بوجود إشكالية من هذا القبيل ساقت علم الاجتماع الحديث إلى مجاهيل معقدة ومتشعبة تشبه في نشأتها الآلية التي تشتغل بها النظرية المالتوسية. فالجماعات والمجتمعات يتوالدان ويتطوران بما لا يتناسب البتة وحجم الظواهر الاجتماعية الناشئة عن التحول في العمران البشري أو المصاحبة لأي اجتماع إنساني.

مثل هذه الوضعية تدفعنا للتساؤل عما إذا كان بمقدور السوسيولوجيا أن تفسر لنا تعاقب الأجيال والدول والحضارات والحركات السياسية والعصبيات بأكثر مما فعل ابن خلدون؟

في واقع الأمر، وكسوسيولوجيين عربا، يبدو الأمر وكأننا لا نجد رصيدا معرفيا أبلغ أثرا وثراء مما خلفه لنا ابن خلدون، وإلا فلماذا يجهد الفكر السوسيولوجي العربي بإحياء التراث الخلدوني لا سيما المتعلق منه بالمجتمع والدولة؟ ولماذا يستعين السوسيولوجيون العرب بالفكر الخلدوني لمحاربة الحركات الإسلامية؟ ألأن ابن خلدون يصرح بأن نظام الخلافة الإسلامي كان مرحلة في التاريخ الإسلامي ليس إلا كما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري في العقل السياسي؟

ولنتساءل ثانية: هل نحن إزاء معرفة اجتماعية كافية لتطور السوسيولوجيا؟ ألا يبدو الرصيد المتوفر منها بارعا بإثارة كل لبس وإبهام؟

إذا كانت الإجابة بنعم، فبماذا نفسر ولادة علم اجتماع المعرفة؟ وهو العلم الذي أدخل السوسيولوجيا في أزمات خانقة على الدوام لم ينج منها أحد من المشتغلين به سواء كانوا طلبة أو باحثين أوحتى أساتذة وعلماء؟ فالكل بات يعاني من اللبس والإبهام والغموض، الأمر الذي أدى إلى التقوقع وتأخر مسيرة البحث العلمي وبالتالي تراجع مكانة السوسيولوجيا عالميا كما أقر بذلك مؤتمر مدريد 1994.

على أية حال فأيا كانت التقسيمات المتعلقة بالنظريات الاجتماعية فالكائن منها، حتى وإن كان، ضمن أشكال الموجودات المختلفة في العالَم الاجتماعي، يسمح بالتمييز بين المجتمعات والفاعلين، فإننا في الواقع لسنا بصدد نظريات متباينة فحسب بالقدر الذي نحن مضطرون فيه للتعامل مع كل نظرية طبقا لمنظومتها المعرفية ولرؤيتها المنهجية عن العالَم الاجتماعي الذي لا يمكن للمنظومة ذاتها أن تنوجد دونه. ويكفي أن نعقد مقارنة بين دوركايم وماكس فيبر لنرى الطريقة التي يفترق فيها كل منهما عن الآخر حين تحديده لماهية المجتمع وسبل دراسته.

فالمجتمع عند دوركايم هو شيء أكبر من مجموع الأفراد المكونين له(مبدأ الكلية الاجتماعية)، وبالتالي فهو المحدد لسلوك الفرد والجماعة، أما الظاهرة الاجتماعية فهي مستقلة عن الفرد وعن الذات العارفة والمنهج الرياضي الكمي هو الوحيد الذي يستطيع إعطائها دلالة ( ظاهرة الانتحار ).

أما ماكس فيبر فينطلق من الفاعل الاجتماعي لتفسير الظاهرة الاجتماعية وليس من المجتمع، والظواهر الاجتماعية ليست مستقلة عن الفرد والجماعة بل هي مرتبطة بسلسلة من الظواهر الاجتماعية التي يصعب فهمها وتفسيرها إلا في إطار شمولي يمس حتى الذات العارفة التي لها حق المشاركة في بناء الدلالات، هذه الذات تتدخل في الظاهرة من خلال تقنية النموذج المثالي.

غير أن الطفرة الهائلة في المنظومات المعرفية لا تعني بأي حال من الأحوال العلمية والموضوعية في علم الاجتماع وكأننا بصدد قطيعة معرفية على طريقة دوركايم – تارد. في هذا السياق بالضبط يجيء النقد الذي قاده كارل بوبر في الأربعينات من القرن العشرين ضد أولئك الذين يجهدون في العمل على حشر علم الاجتماع ضمن منظومات معرفية تستجيب فقط للأطروحة الدوركامية أو ما يعبر عنه بالنظرية الوضعية. لهذا يحث بوبر على وجوب التنوع مؤكدا في الوقت ذاته استحالة وجود نظرية اجتماعية واحدة شاملة بمقدورها التصدي للمجتمعات والظواهر الاجتماعية على الدوام.

هذه الدعوة تنطلق من فرضية أن المعرفة الاجتماعية تتكامل وإن بدت في الظاهر متخارجة، فعلى الرغم من الاختلاف الظاهري بين المنظومات والمناهج إلا أن أحدا لا يمكنه إحداث قطائع ابستيمولوجية بينها. فالكثير من العلماء مثلا يرون أن دوركايم وفيبر يكادان يتطابقان، بل أن رواد البنائية الوظيفية أمثال روبرت ميرتون وقولدمان وفي مقدمتهم بارسونز ( انطلاقا من مقولتي الفاعل والنسق ) لا يرون في البارسونزية ( ومثلما يصرح بذلك بارسونز نفسه ) إلا مواءمة بين دوركايم وفيبر.

ولو أخذنا ظاهرة البيروقراطية أيضا كموضوع للبحث لكان قصورا منهجيا حادا سيتعرض له أي باحث يتناول هذه المسألة ولا يضع في الاعتبار تراث فيبر وميشيل كروزيه في الصدارة على مستوى المفهوم والمنهج بالرغم من أن سوسيولوجيا كل منهما مختلفة اختلافا جذريا عن الآخر. فالأول ( فيبر ) ذو منهج فريد لا يشاركه فيه أي عالم اجتماع آخر حتى اللحظة، والثاني ينتسب إلى النظريات الجزئية النازعة إلى التعميم عبر علم اجتماع التنظيم.

هذه الأمثلة في النظرية الاجتماعية تدفع بأهل العلم والمعرفة إلى الإقرار بأن التحولات الاجتماعية هي التي تستدعي البحث عن المزيد من المنظومات المعرفية وهي التي تخلق المناهج التي تلائم المستجدات من العالَم الاجتماعي، وتلك هي سنة التطور العلمي، أما الآن فعلينا أن ننتقل إلى المحور الثاني والتساؤل عن مكانة الدولة والمجتمع في ظل حشد من المعرفة الاجتماعية.

المحور الثاني: فوضى الاجتماع الإنساني

عدل

على خلفية تفكك المجتمع الإقطاعي وظهور المجتمع الرأسمالي والإنسان الميكانيكي في القرن التاسع عشر اجتاحت أوروبا فكرة النماء والتقدم، أما تراكم رأس المال وتطور قطاعات الاقتصاد والمواصلات والاتصالات فقد دفعت بالعربة الاستعمارية إلى الانطلاق محتمية في الظاهر بفكرة نشر المدنية بين الأمم والشعوب المتخلفة ومبطنة أهدافها في البحث عن أسواق جديدة للثروة.

في هذه المرحلة من الزمن كانت الدولة في صدارة الفعل والاهتمام، وبات شعار النماء والتقدم ملازما لها وليس للمجتمع، فهي التي تسيطر على جميع مناحي الحياة الاجتماعية، وهي المعنية ببناء المؤسسات وسن التشريعات وتقنين الحياة وإدارة عملية التنمية والتحديث. أما المجتمع فقد غدا يترنح تحت وطأة الضربات الساحقة التي باتت تسددها له الدولة عبر النخب الرأسمالية المتنفذة التي تحالفت علنا معها، وبات المجتمع عاجزا عن مواجهة حمى التحول من نمط تقليدي إلى نمط حديث.

في هذه المرحلة أيضا انقسم الفكر الاجتماعي بين " دفاعي " و" محافظ ". وها هو كارل ماركس يجهد في الدفاع عن المجتمع ضد الطبقات المهيمنة من أصحاب رؤوس الأموال ويبشر بانهيار الرأسمالية وولادة مجتمع العدالة الاجتماعية ( المجتمع الاشتراكي ). أما إيميل دوركايم ( + مارسيل موس وباريتو وغيرهم ) فقد لعب دور المصلح الاجتماعي ورفض أن يقيم كبير وزن للصراع الاجتماعي إلا كعلاقة اجتماعية تعبر عن تحول إيجابي على مستوى النسق العضوي. فالوضعية الطبيعية لهذا النسق تتسم بالضرورة بالتوازن والثبات. إنها حقا رؤية جامدة لا تعترف باختلال النسق ولا بزواله لأنها كانت تريد أن تفسح المجال أمام الدولة في قيادتها للتحول. وحتى البحث العلمي في المجتمعات المتقدمة اتجه نحو فهم المجتمع من خلال الدولة وتركيبتها وسلوكها وتوجهاتها وليس من خلال المجتمع.

بيد أن دوركايم توفي سنة 1917 قبل أن يلاحظ مليا أن الدولة الرأسمالية ستغدو متوحشة في الداخل وعدوانية بالخارج، وبالتالي فالنسق لن يهتز فقط بل هو معرض في بعض الأحايين إلى الزوال. هذا ما تبوح به النسقية الحديثة من قلب الرأسمالية العالمية ومن خلال بارسونز ذاته، هذه النسقية عملت على إخراج النسق من حالة الجمود والسكون إلى حالة النشاط والفاعلية، وباعتباره بنية علاقات صراعية قد تؤدي في لحظات إلى اهتزاز وربما انهيار كامل.

هكذا نلاحظ أن النسقية التقليدية قدمت الدولة على المجتمع فيما أعادت النسقية الحديثة بعض الاعتبار للمجتمع ولكن دون أن تسمح له بتجاوز الدولة. وفي المحصلة كان للنسقية الحديثة آثار كارثية على المجتمعات الضعيفة، فالاعتراف باختلال وظيفي في النسق أعقبه تدخلات عنيفة وتهديدات من قبل الرأسمالية العالمية بغية الاحتفاظ بالهيمنة والاستغلال والتبعية وشيوع لظاهرة الاستعمار على نطاق واسع.

وظلت وضعية المماثلة بين المجتمع والدولة قائمة إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي شكلت تداعياتها فيما بعد نذيرا بفك الارتباط بين هذه الصيغة لاسيما بعد أن أثبت المواطن الأوروبي جدارته في الحروب ودفع ثمنا باهظا فيها. بهذا المعنى أيضا والذي رافقه إعادة الإعمار شكلت النسقية الحديثة ذاتها نذيرا بقرب زوال نظرية المماثلة، وفعليا فقد أزفت ساعة الإنزواء لعصر الإنسان الميكانيكي بدخول البشرية عصر الثورة الصناعية الذي أنتج صيغة المجتمع الصناعي المبرمج، ولم يمض سوى عقد واحد حتى ظهر المجتمع ما بعد الصناعي أو المجتمع التكنولوجي الذي دشنته تقنية الكوارتز مطلع الستينات من القرن العشرين. ولقد بات واضحا في الأثناء تقدم المجتمع على الدولة بل وسطوته عليها عبر المؤسسات السياسية الكبرى والمصانع الضخمة والشركات المهيمنة والعابرة للقارات وعبر الاستثمارات الهائلة في مجال التصنيع والإنتاج والعلم وإعادة الإنتاج. إنه المجتمع الذي: " ... لا يتوقف عن التحول والتبدل، مجتمع توجهه وتحدد اختياراته واستراتيجياته إرادته... مجتمع يشتغل على نفسه وبمقدوره التأثير في اختيارات الدولة واستراتيجياتها ".

وكان من الطبيعي أن تنفجر سلسلة من النظريات الاجتماعية التي أخذت على عاتقها دراسة التحولات الاجتماعية الجذرية التي طرأت على إجمالي الحياة الإنسانية والتفتيش عن منظومات معرفية ومنهجية جديدة بمقدورها التصدي لظواهر كبرى غير معهودة في التاريخ الإنساني، فظهرت البنيوية بحلتها الجديدة على يد العالم بيير بورديو وظهر علم الاجتماع الدينامي من خلال أعمال ألن تورين وظهر علم اجتماع التنظيمات لميشيل كروزيه وتطورت كل مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولم تعد الكثير من النظريات الاجتماعية التقليدية قادرة على دراسة الأحوال الجديدة للعمران إلا في حدود ضيقة أو معينة حتى النظرية الماركسية عجزت عن مواكبة التحولات بعد أن تجاوزتها الظواهر المستجدة وباتت النبوءة القائلة بحتمية اتجاه التطور الضروري نحو نماذج سياسية متماثلة من نوع المجتمع الاشتراكي في ذمة التاريخ، فالمجتمعات بحسب جورج بالاندييه: " لم تعد كما كانت تبدو على السطح أو في الظاهر بل بما هو كائن في أعماقها وهو ما لم تستطع النظريات الماورائية ملاحظته ولا الوصول إليه " وحسب عالم اجتماع آخر هو روي باسكر: " فللمجتمعات عمقا أنطولوجيا، ففيها مستويات من الوجود تحت ما يظهر على السطح، أبعد مما يبدو للعيان. وهذه المستويات التحتية ذات أهمية خاصة لأنها تستطيع أن تفسر ما هو باد لنا".

هكذا إذن انتهت المماثلة بين الدولة والمجتمع خاصة مع تقدم الليبيرالية على حساب كل الأيديولوجيات وفي مقدمتها الفكر الشيوعي. والسؤال الآن هو: مع دخول العالم عصر العولمة، ما هو مصير النظريات الاجتماعية التقليدية؟ وما هو مصير علم الاجتماع ذاته؟

في الواقع نحن نطرح السؤال ليس للإجابة عليه، بل لوضعه في السياق الموضوعي لعالَم اليوم، وهذا السياق تشخصه بعض المعطيات النظرية التي نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:

العولمة

عدل

يمكن التفكير في العولمة انطلاقا من توصيف يضع في مقدمته كل الموجودات والسلوكات والترتيبات الإنسانية باعتبارها سلع في سوق مفتوحة تهيمن عليها القوى العظمى، ففي ظل تكنولوجيا المواصلات والاتصالات الرهيبة لم يعد مقبولا التحدث عن أنظمة اجتماعية مفتوحة وأخرى مغلقة ولا عن خصوصيات ثقافية ولا عن هذا وذاك، وفي هذا السياق تأتي الحاجة إلى وجود منظمة للتجارة العالمية وغيرها من المنظمات المماثلة. ثمة سوق واحد فقط هو السوق الرأسمالية وسلع تمثل البنية التحتية لما بات يسمى بالنظام الدولي الجديد. وتأسيسا على ذلك لما نفكر في علم الاجتماع علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار السوق كأبرز ظاهرة في عصرنا الراهن، وأن كل الظواهر الإنسانية منبثقة عنه بالضرورة. وإذا كان من الضروري أن نتحدث عن قيم الحداثة الموصوفة زورا وبهتانا بالكونية فليس الآن ثمة قيم كونية غير قيم السوق. وهذه القيم ليست سوى سلع معروضة للمتاجرة إما بهدف تطويرها وتحقيق أقصى فائض من الربح على حسابها كالسلع المادية والتكنولوجية والعلمية ودون مراعاة لأي جانب أخلاقي في استثمار العلم ومنتجاته، وإما لإتلافها وتصفيتها باعتبارها سلع ضارة تؤثر في استقرار السوق كالقيم والمبادئ والأخلاق وحقوق الإنسان والشعوب المضطهدة أو المستعمَرة.

انهيار الحضارات

عدل

إن تعبير المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ تعني أن الإنسانية قد وصلت بالرأسمالية إلى قمة التطور الإنساني، وهي نتيجة تؤشر على نزعة هيمنة وتدخل لا حدود له حتى لو استدعى الأمر تصادم حضاري على طريقة مواطنه صموئيل هنتنجتون في أطروحته الشهيرة عن صدام الحضارات. والصراع هنا يتعلق بمدى اندماج هذه الثقافة / الحضارة أو تلك بنظام السوق أو لا. وبحسب مقالته في مجلة النيوزويك الأمريكية يقترح فوكوياما الإسلام كحضارة استعصت على الاحتواء.

اختفاء الدولة

عدل

ثمة أمر ملفت للانتباه هنا، فالأيديولوجيا الماركسية تجسدت كقوة مادية في صيغة دول عظمى حينا من الزمن قد انهارت فعلا، ولكنها كفكرة يبدو أنها في طريقها إلى القمة وبمحتوى رأسمالي هذه المرة ويا للمفارقة! ففي آخر مراحل الفكر الشيوعي يتحدث ماركس عن وجوب اختفاء الدولة وعدم الحاجة إليها في ضوء الوعي الإنساني الذي يكون قد بلغ ذروته من التنظيم والمسؤولية. ولأن العولمة ترتكز أساسا على السوق ومنتجاته فماذا بقي من المجتمع أو الفرد أو الدولة؟ وماذا بقي من قيم السيادة أو القانون أو الخصوصيات أو... في عالم تحكمه وتوجهه قيم السوق؟

هل تنبأ علم الاجتماع بمثل هذه الوضعية؟

الجواب نعم. فالوظيفية الجديدة التي قادها عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون بدء من خمسينات القرن العشرين تقر بأن المجتمعات باتت مفتوحة ولا حواجز بينها، وبعد وفاة بارسونز ظهر تيار أميركي سنة 1979 يتحدث بنفس الصيغة ويعتقد بقوة بنظرية النسق المفتوح وفي هذا الصدد يصرح عالم اجتماع بريطاني هو أنتوني جدنز بالقول: " إننا نخطئ حين نفكر بالمجتمعات واستمرارها كما لو أنها تحدها الحدود الجغرافية " وما يفضله هو الحديث عن " أنساق مفتوحة ".

هذه الرؤية تتفق إلى حد كبير مع أطروحات علم الاجتماع الدينامي ( علم الاجتماع المستمر ) كون عملية التحول والتبدل في المجتمعات المتقدمة لا تتوقف، بل وأكثر من ذلك أن ألن تورين لا يعترف أصلا بالحدود الجغرافية والسياسية كحدود اجتماعية لمجتمع ما. أليست الدعوة إلى أنساق مفتوحة هي لب العولمة؟ ثم أيهما يتقدم الآن على الآخر، المجتمع؟ أم الدولة؟ لا شك أنه إذا كان المجتمع فهذه صيحة فزع لأننا سنتجه نحو صدام حضارات قطعا، أما إذا كانت الدولة فنستطيع أن نطمئن قليلا لأن العولمة مخيفة حتى للمجتمعات المتقدمة وليست القوى المناهضة لها في كل محفل دولي ببعيدة عن النظر.

أما علم الاجتماع فكعادته قد يبرع في تشخيص الواقع ولكنه في وضعه الحالي أبعد ما يكون حتى عن توقع الظواهر المحتملة لعالَم السوق هذا؟ ورحم الله عالمنا الجليل ابن خلدون حين قال: " إذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث". من الملاحظ أننا نعيش بواكير مرحلة فوضوية تصر قوى السوق فيها على إعادة البشرية إلى حالة من المشاع الإنساني القديم بكل عدوانيته وتوجسه ووحشيته، ولكن بطريقة أكثر عنفا وشراسة إذا ما عرفنا أن صيغة المشاع هذه لا تتخذ شكل الجماعات الصغيرة البدائية التقليدية بل التجمعات الإنسانية الكبرى المتطورة جدا على شاكلة الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا والصين والهند والبرازيل والمكسيك.. إلخ فماذا سيتبقى للجماعات الصغيرة والمتخلفة؟ وهل هي واعية بما يجري لها؟ أم أنها منجرفة كجلمود صخر حطه من عل؟