علم الاجتماع/النظرية الاجتماعية

هذا الكتاب أو المقطع بحاجة إلى إعادة كتابة وتنسيق باستخدام صيغ الويكي، وإضافة وصلات. الرجاء إعادة الصياغة بشكل يتماشى مع دليل تنسيق المقالات. بإمكانك إزالة هذه الرسالة بعد عمل التعديلات اللازمة.


الموجز في النظريات الاجتماعية التقليدية والمعاصرة *

الجزء الأول

إعداد:

د. أكرم حجازي

استاذ علم الاجتماع المساعد في جامعـة تعـز- كلية الآداب- قسم علم الاجتماع- الجمهورية اليمنية.

مقدمــــة

عدل

النظرية السليمة مطلب أساسي لكل من يجد في رأيه سدا, يجب على الباحث إثبات نظؤيته والبحث في فروعها ودوافعها, تعدد المصادر وصعوبة البعض الآخر من أكثر العقبات التي تواجه كل شخص فضلا عن نظريته, الهدف بالبحث والبحث وتذوق كل مسار حتى يرضي نفسه ولايتمنى غير دربه, وإن لم يأيده أحد. نصف علماء الأرض أصبحوا مشاهير بعد وفاتهم.

النظريات الاجتماعية

عدل

وفي علم الاجتماع المعاصر ثمة نوعان من النظريات:

§ النظريات الكبرى، ومثالها النظرية الماركسية ذات الطرح الشمولي أو التحليل الماكرو سوسيولوجي .

§ ولكن هناك تصنيفات أخرى للنظرية الاجتماعية على أساس نظريات البنية ( النظريات البنيوية الأنثروبولوجية والاجتماعية ) أو نظريات الفعل كالنظرية التفهمية لـ ماكس فيبر .,

الجزء الأول

عدل

النظرية الاجتماعية التقليدية

عدل
  • الوضعيـــــــــــة 1 -

سان سيمون S. Simon

( 1825 - 1970)

المقاربة الوضعية هي منهجية

القاموس الثنائي

اقرأ برجك

الحظ والابراج تحليل كامل عن شخصي

معجم الأسماء العربية مواقع صديقة قضايا حوارية: حلم "سان سيمون" الاجتماعي د. خليـل عبدالرحمـن (سورية) عضو هيئة التدريس بقسم الفلسفة جامعة السابع من أكتوبر ( ليبيا)

عاشَ “سان سيمون” (1760- 1825) في نظام إقطاعي سليلاً لأسرة أرستقراطية فرنسية، وحملَ لقباً اجتماعياً هو “الكونت”، وكان ضابطاً برتبة ملازم أول لما كانت فرنسا تخوض حرباً ضد الإنجليز في شمال القارة الأمريكية.

نضجَ فكره خلال الثورة الفرنسية التي كانت بمثابة ثورة على النظام الاجتماعي والاقتصادي في أوروبا عامة وفي فرنسا خاصة، وثورة على النظام المعرفي التقليدي وعلى النظام السياسي الملكي. تأثر بالفكر الموسوعي، حيث اتخذَ عنده طابعاً تطبيقياً عملياً وليس نظرياً مثلما كان سائداً في المرحلة التجريدية. وطوَّر “سيمون” آليات تحليل جديدة تقوم على الترابط بين المعرفة والواقع الإنساني، وصارَ موضوع الدين أول اهتماماته، الذي عدَّه أداة مدنية لحكم المستنيرين لغير المستنيرين، ويلعب دوراً في التربية التي تُعدُّ العنصر الذي يساعد على توطيد المشاعر الديمقراطية وتحقيق القيم الأساسية. ومفهوما “السياسة” و”الديمقراطية” يساويان لديه الحرية التي تعني نبذ التميز العرقي والثقافي والسياسي. وعندما يلتقي المفهومان يحدث تغييراً في مفهوم الأمة. وإذا أعطينا هذين المفهومين مدلولاً وضعياً وتصوراً موضوعياً فإن أمة جديدة ستنبثق، أمة متحررة من التميز الديني والانغلاق ومن تبعات الإقطاعية، ويسميها “سيمون” بـ”الأمة العاملة”. أن تغير القاعدة المعرفية تسبب في تغير النتائج، فلو نظرنا إلى المفهومين في المراحل السابقة على الوضعية فلا يمكن الحديث عن “أمة عاملة” بالمعنى الـ”سيموني”، لأن السياسة كانت حكراً على طبقة معينة والمجتمع لم يكن حراً ولم يتمتع بأية عدالة. هكذا فالانتقال من المرحلة الإقطاعية اللاهوتية إلى المرحلة الصناعية العلمية هو انتقال من ساحة العلم النظري إلى ساحة العلم التطبيقي العملي، أما فالوضعية فتأبى الاعتراف بفواصل مابين النظري والعملي، إذ ثمة ترابط بين المعرفة والواقع الإنساني.

---

يوجد وجهان لكل عمله. فاو يعلم البعض عن طفولة سان سيمون وكيف كان في مدرسة دينية متشددة لحد التعصب والتطرف الذي كان بادءا لشبابه, ويقود بعض آرائه. حيث كان سيمون على اتم الجهل حتى عام 1820 ان آراءه أو اهتماماته كان لها اهتمام خارج عالمه وقوقعته. ويخفى على الجميع بعض اخاء سيمون في أفكاره وسبب انقياده لها. وحسب مايعرف البعض عنه انه لم يحاول الوصول خارج اهتمامه في نفسه ومأزقه. حتى ان بعض أفكاره تبقي الكل ينظر إليه, حاول النسيان, الإستغباء الإستمطار. لكن مشيئة الله سائده.

---

ربطََ “سيمون” بين مفهوم المواطنة، الذي جلبه معه من أمريكا حيث كان يقاتل الجيش الإنجليزي، وبين العدالة الاجتماعية، بل أنه ينحاز إلى مفهوم المواطنة معلناً في كتابه “المسيحية الجديدة” تخليه عن لقبه “الكونت”، حيث اعتبره وضيعاً أمام مفهوم المواطنة. تبع هذا الإعلان تأييده للثورة الفرنسية، ثم نالَ لقب “المواطن الصالح” مرتين متتاليتين، مما يعني أنه بات رمزا للتحرر والمساواة والتجديد. ليست هذه النقلة في حياته نقلة سياسية فحسب، بل نقلة اجتماعية وفكرية ومعرفية، ونتيجة عمله الدؤوب من أجل تغيير مضمون الدين من الداخل وإكسابه مضموناً جديداً يقوم على مبدأ الحرية والمساواة.

-- مجرد نظريات. في رأيي ان سيمون يجهل ما يدور حوله وينتظر ويستبز بكل قوته حتى يوقفه فاعل خير. --

قدَّمَ “سيمون” الأديان بوصفها ظواهر اجتماعية وإنسانية من الممكن تحليلها تحليلاً علمياً كبقية الظواهر الأخرى، وبهذا تخلَّصَ من كل الثوابت المقدّسة التي بإمكانها أن تعيق تطور المجتمع نحو الحرية والمؤسسات المدنية. والوضعية الجديدة كما مارسها “سيمون” لا تهدف فقط إلى تغيير شروط إنتاج المعرفة فحسب، بل إلى تغيير النظام السياسي والمؤسساتي والاقتصادي، أي أن الوضعية تمثل نقلة جذرية في النظام السياسي والاجتماعي القائم، وإذا لم تحدث هذه النقلة فمن المستحيل أن نتحدث عن “أمة عاملة”. إذن ثمة تغييرات تجعل من المجتمع عنصراً إيجابياً، الذي يكمن في تحقيق العدالة في مضمونها السياسي والاجتماعي واستبعاد الدين من الحياة الاجتماعية. ثمة مبدأ يحكم تحقيق العدالة المنشودة، وهو ذو بعد شخصي وعلمي لدى “سيمون”، الذي يكمن في وجوب ردم الهوة الفاصلة بين النظري والتطبيقي للوصول إلى علاقة تكاملية بين المستويين، ودون ذلك سيظل هناك ازدواجية تحافظ على استمرارية الهوة الفاصلة، لذا لابد من إنجاز منظومة ابستمولوجية ومعرفية جديدة تقوم على التكامل بين البعدين، ولعلَّ أوضح مثال هو ما طبقه على نفسه عندما أعلنَ تخليه عن لقب “الكونت” وإعلائه شأن المواطنة (لم يعد بيننا أسياد…). تسعى هذه المقاربة الوضعية الباحثة عن العدالة السياسية والاجتماعية إلى هدم العناصر السياسية والمؤسساتية المكونة للنظام السياسي والاجتماعي القديم، والتي من بينها التمايزات الطبقية والاجتماعية في شكلها التقليدي.

- يحق لسيمون الصراخ والبكاء وفعل مايحلو له في حرمة منزله. وحقه على ضيفه عدم فتح خزانته واطالة النظر فيها. فإن الصحابي عمر لما سمع الغناء في دار أحدهم. ساله عنها. فرد عليه الآخر وقال -بمامعناه- هل تجسست علي في منزلي؟ رد عليه عمر وقال صدقت. فتركه ومشى. من سمو وحلي أخلاق عالم الدين و قائد امته ان يبذل جاهدا في مد يد الخير. وينسى الإنتقاد وتجاهل المساعدة والجلوس خلف التلفاز لمشاهدة الأخبار للإنتقاد غير البناء. -

أرسى “سيمون” دعائم تعامل معرفي جديد مع الظاهرة الدينية بمختلف تنظيماتها ومؤسساتها، تعامل يقوم على اعتبار الظاهرة الدينية ظاهرة اجتماعية إنسانية من خلال إخراجها من دائرتها المقدّسة والنظر إليها باعتبارها ظاهرة إنسانية. ولكن لماذا يجهد “سيمون” لاستبعاد الدين من الحياة الاجتماعية ويشدِّد على تشجيع التعامل الجماعي بين أفراد المجتمع؟ ولماذا تنقلَ بين الكنائس مبشرا بالمسيحية الجديدة؟. إن مجتمع “سيمون” هو مجتمع صناعي علمي، ومثل هذا المجتمع يبحث عن دماء جديدة لضخها في عروقه، كما أنه يحتاج إلى وحدة معرفية ومعيارية، وبالتالي لابد من القضاء على مخلفات النظام القديم بكل منظوماته وتشكيلاته ومعتقداته وتصوراته وبناه وأنماط تفكيره إذا ما أردنا تحقيق العدالة والتقدم، إذن ما العمل، وما العلاقة بين الدين والمجتمع الجديد؟. يحرص “سيمون” على تجاوز الدين اعتقاداً منه أنه العقبة التي تشجع الفراغ، ولأنه ثمة تناقض بين الفراغ والعمل الجماعي المنتج، لذا ينبغي أن نغير مضمون الدين وذلك بأن نكسبه مضموناً جديداً يتمثل في نظام بشري جديد.

- ولأن الإنتاج الجماعي أو الخلق الجماعي يقوم على الإنتاج البشري، لذا ينبغي فك التناقضات التي يعاني منها مجتمع ما بعد الثورة، أي المجتمع الصناعي، إذ لاحظَ أن المجتمع ما زال في حالة صراع قائم على معرفة لاهوتية ومعرفة علمية، سلطة إقطاعية وسلطة صناعية. إذن ثمة تحالف بين المعرفة اللاهوتية والسلطة الإقطاعية ضد المعرفة العلمية والسلطة الصناعية، ولفك هذا التناقض أو التحالف ينبغي استبعاد الدين للسماح بمرور العمل الجماعي المنتج وقتل الفراغ.

- حسب الكتاب الذي قرأت منه, سيمون كان شخصا طيبا لايرى عيبا في غيره الا في فترة كانت صعبه عليه. سيمون شخص كريم ولاينسى الكرم. فهو يعامل الناس كما يحب ان يعاملوه (انا صديقط حتى الموت. سيمون فقط يصاب بالدهشه العارمة عند تقلب مجتمعاته المفاجئة بلا مبرر. -

اعتقدَ “سيمون” أن انتشار الأفكار الوضعية ستساعد وستشجع على انتشار الصناعة التي هي الشرط الأساسي والوحيد لقيام مجتمع مدني ومعرفة وضعية، فالصناعة بطبيعتها تخلق مجتمعاً مدنياً وتصورات وضعية التي تعني بالمعرفة العلمية. والصناعة هي مبدأ مركزي في كل النظريات المعرفية، فالفكر الاشتراكي الذي يُعدّ “سيمون” عميده بُني على مركزية مبدأ الصناعة، بمعنى أن الصناعة تشجع بطبيعتها على خلق القيم الوضعية المستقلة عن الفكر الديني والكنسي في نفس الوقت. كما نجد مركزية مبدأ الصناعة عند “إميل دوركايم” من خلال كتابيه “تقسيم العمل الاجتماعي” و”الانتحار” وكذلك عند “ماكس فيبر” في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”. إذن الصناعة في الفكر السياسي والاجتتحليلية تقوم على استبعاد لأنماط الفكر والتحليل اللاهوتي ( الديني ) والميتافزيقي ( التجريدي = الطبيعة ) من أي تحليل مقترحة بديلا عنهما الإنسان الذي بات يتمتع بقيمة مركزية في الكون، بهذا المضمون سنكون على إطلالة لمعادلة جديد تحكم سير الحياة الاجتماعية برمتها على النحو التالي :

الظاهرة الظاهرة الظاهرة

مرجع لاهوتي مرجع ميتافزيقي مرجع إنساني / الوضعية

الدين الطبيعة = التجريد العقل

هذه المعادلة التي ستمثل لدى أوجست كونت المراحل التي مرت به الإنسانية ومصدر قانون الحالات الثلاث تبين لنا أن الإنسان لم يكن موضع ترحيب في المرحلتين السابقتين، إذ أن الإنسان عجز عن أن يجد له موقع أو مكانة فيما مضى لذا فقد استبعد من أي تحليل للظواهر مفسحا المجال أمام القوى الدينية أو قو ى الطبيعة. وبما أنه لم يكن للإنسان أية قيمة فلم تكن أيضا للمجتمع آية قيمة, ولهذا تطورت الوضعية العلمية التي تناولت ظواهر طبيعية بينما لم تتطور ذات الوضعية حينما كانت تتناول ظواهر متعلقة بالإنسان والمجتمع، وسنرى كيف وضع أوجست كونت حدا لهذه الازدواجية في التفكير والتي يسميها الفوضى العقلية التي تسببت في ثلاث ثورات برجوازية وقعت في أعقاب الثورة الفرنسية 1789 حتى سنة 1848، ولكن قبل الوصول إلى أوجست كونت علينا العودة الي جذور الوضعية لدى أستاذ كونت وهو المفكر سان سيمون .

عاش سان سيمون في نظام إقطاعي سليلا لأسرة أرستقراطية، ويحمل لقبا اجتماعيا هو الكونت وكان ضابطا برتبة ملازم أول لما كانت فرنسا تخوض حربا ضد الإنجليز في شمال القارة الأمريكية، وقد نضج فكره حلال الثورة الفرنسية التي كانت بمثابة ثورة على النظام الاجتماعي والاقتصادي في أوروبا عامة وفرنسا خاصة وثورة على النظام المعرفي التقليدي السائد في فرنسا وثورة على النظام السياسي الملكي .

بداية المقاربة الوضعية

عدل

بدأت المقاربة الوضعية في مرحلة الفكر الموسوعي الذي عرفه في القرن 18 واتخذت عند سان سيمون طابعا تطبيقيا عمليا وليس نظريا مثلما كان سائدا في المرحلة التجريدية أي العلم النظري المجرد، ففي القرن 18 طور الفكر الموسوعي آليات تحليل جديدة تقوم على الترابط بين المعرفة والواقع الإنساني لذا سيمثل هذا الفكر مرجعية سان سيمون. فمن أين البداية إن لم تكن من المقاربة الوضعية للدين ؟

تعريف سان سيمون للدين

عدل

في كتابة الشهير ( المسيحية الجديدة ) يعرف الدين بأنه :

" جملة تطبيقات العلم العام التي يمكن بواسطتها أن يحكم الرجال المستنيرون غيرهم من الجهلة " .

بهذا المضمون فان الديانة عند سان سيمون هي أداة مدنية للحكم المستنير لغير المستنيرين. وبما أن الدين يلعب دورا في التربية لذا فان التربية هي العنصر الذي يساعد على توطيد المشاعر الديموقراطية وتحقيق القيم الأساسية .

  • مفهومي " السياسة " و" الديموقراطية = الحرية "
  • السياسة هي علم الانتاج .
  • الحرية هي نبذ التميز العرقي والثقافي والسياسي .

فما الذي يحدث عندما يلتقي المفهومان ؟ سنلاحظ تغييرا في مفهوم الأمة. وإذا أعطينا هذين المفهومين مدلولا وضعيا وتصورا موضوعيا ( أي محاكمة المفهومين وتحليلهما علميا وليس دينيا ولا تجريديا ). فالذي سيحدث أن أمة جديدة ستنبثق .هذه الأمة متحررة من الميز الديني والانغلاق مثلما ستكون متحررة من تبعات الإقطاعية. ومثل هذه الامة الجديدة يسميها سان سيمون بـ " الأمة العاملة " .

استنتاج أولى

عدل

من الملاحظ أن تغير القاعدة المعرفية تسبب في تغير النتائج. فلو نظرنا إلى المفهومين في المراحل السابقة على الوضعية فلا يمكن الحديث عن أمة عاملة بالمعنى السان سيموني لان السياسة كانت حكرا على طبقة معينة ولان المجتمع ليس حرا ولا يتمتع بأية عدالة، ومثل هذه السياسة والعبودية كانتا تجدان لهما شرعية ذات طابع ديني أو طبيعي. بيد أن الوضعية بوصفها استعمال للعقل ورفع من مكانة الإنسان قدمت السياسة كأداة حيوية في تنشيط الحياة الاجتماعية والاقتصادية ونقلت الأمة من طور الخمول والكسل الي طور العقل والإنتاج ووضعت الجميع على قدم المساواة وأصبح الإنسان سيد نفسه حرا من ا ي تمييز عرقي أو ثقافي أو سياسي .

هكذا فالانتقال من المرحلة الإقطاعية اللاهوتية إلى المرحلة الصناعية العلمية هو انتقال من ساحة العلم النظري الي ساحة العلم التطبيقي العملي. فالوضعية تأبى الاعتراف بفواصل مابين النظري والعملي إذ ثمة ترابط بين المعرفة والواقع الا نساني .

المواطنة والعدالة الاجتماعية

عدل

يربط سان سيمون بين مفهوم المواطنة الذي جلبه معه من أمريكا حيث كان يقاتل الجيش الإنجليزي في بلد تعج فيه الثورات الأهلية الكبرى والعارمة وبين العدالة الاجتماعية بل انه ينحاز إلى مفهوم المواطنة معلنا في كتابه ( المسيحية الجديدة ) تخليه عن لقبه الكونت :

[ لم يعد ثمة أسياد .نحن جميعا متساوون .وأعلمكم بهذه المناسبة أنني أتخلى عن صفتي الكونت التي اعتبرها وضعية جدا أمام صفتي كمواطن ..]

تبع هذا الإعلان حسما لتردد سان سيمون في تأييده للثورة الفرنسية في البداية ثم نال لقب المواطن الصالح مرتين متتاليتين مما يعني انه بات رمزا للتحرر والمساواة والتجديد. هذه النقلة في حياة سان سيمون – المواطن الصالح – ليست نقلة سياسية فحسب بل نقلة اجتماعية وفي هذا الأساس نقلة فكرية ومعرفية في ذات الوقت. كما أن هذه النقلة أيضا جهد سان سيمون في ترجمتها من خلال عمله الدؤوب من أجل تغير مضمون المسيحية من الداخل وإكسابها مضمونا جديدا علميا يقوم على مبدأ الحرية والمساواة. هكذا يبدو الدين هو العلم العام كما يصرح سان سيمون .

عودة إلى مفهوم الدين

عدل

إذن الدين ليس حالة ثابتة بقدر ما هو حالة تطورية ولما يتساءل عن الدين وماهية الأديان نراه في كتاب ( المسيحية الجديدة ) يقول بتطورية الأديان وعدم بقائها على حالها .

[ الأديان مثلها مثل بقية المؤسسات تتمتع بطفولة وفترة قوة ونشاط وأيضا مرحلة انهيار وحين تكون في مرحله انهيار فأنها تكون ضارة ،أما في مرحلة الطفولة فهي غير كافية ..]

قراءة في المقاربة الوضعية للأديان عند سان سيمون

عدل

السؤال : لماذا ينظر الكثير إلى سان سيمون على أنه من مؤسسي علم الاجتماع الديني؟

لانه في واقع الأمر ساهم ولو بشكل محدود في تأسيس هذا العلم. ومن حيث الجوهر لان سان سيمون قدم الأديان بوصفها ظواهر اجتماعية وإنسانية من الممكن تحلياها تحليلا علميا كبقية الظواهر الأخرى. بل أن سان سيمون قاربها كما فعل ابن خلدون في نظريته حول تداول الحضارات التي تنشأ ثم تقوى ثم تنهار, وهكذا بدا له الدين. إذن الوضعية تخلصت من كل الثوابت المقدسة .

ما هو الدور الذي تلعبه الفلسفة الوضعية ؟

عدل

يلاحظ أن الوضعية الجديدة كما مارسها سان سيمون لا تهدف فقط إلى تغيير شروط إنتاج المعرفة بل إلى تغيير النظام السياسي والمؤسساتي والاقتصادي. بمعنى أن الوضعية تمثل نقلة جذرية في النظام السياسي والاجتماعي القائم. وما لم تحدث هذه النقلة فمن المستحيل أن نتحدث عن أمة عاملة .

إذن ثمة تغييرات تجعل من المجتمع عنصرا إيجابيا .

والسؤال هو: ما هي مستويات التغيير الجديد بحسب المقاربة الوضعية ؟

أولا : تحقيق العدالة في مضمونها السياسي والاجتماعي واستبعاد الدين من الحياة الاجتماعية

ثمة مبدأ يحكم تحقيق العدالة المنشودة ذو بعد شخصي وعلمي لدى سان سيمون. هذا المبدأ هو وجوب جبر الهوة الفاصلة بين النظري والتطبيقي للوصول إلى علاقة تكاملية بين المستويين، ودون ذلك سيظل هناك ازدواجية تحافظ على استمرارية الهوة الفاصلة لذا لابد من إنجاز منظومة ابستمولوجية ومعرفية جديدة تقوم على التكامل بين البعدين النظري والتطبيقي ولعل أوضح مثال هو ما طبقه سان سيمون على نفسه تعلق في دعوته إلى تحقيق العدالة تخليه عن لقب الكونت وإعلائه لشأن المواطنة ( لم يعد بيننا أسياد…).

هذه المقاربة الوضعية الباحثة عن العدالة السياسية والاجتماعية ستسعى عمليا إلى :

  • هدم العناصر السياسية والمؤسسية المكونة للنظام السياسي والاجتماعي القديم والتي من بينها التميزات الطبقية والاجتماعية والمسيحية في شكلها التقليدي
  • لذا فان سان سيمون سيرسي دعائم تعامل معرفي جديد مع الظاهرة الدينية بمختلف تنظيماتها ومؤسساتها، تعامل يقوم على اعتبار الظاهرة الدينية ظاهرة اجتماعية إنسانية من خلال إخراجها من دائرتها المقدسة والنظر إليها باعتبارها ظاهرة إنسا نية، هذا المبدأ المعرفي الجديد تجاه الظاهرة الدينية سنجده حاضرا وقائما في كتابات الكثير من العلماء مثل غاستون لبلوس G.lebles وهنري ودوركايم ومارسيل موس، هذه الأسماء بالإضافة إلى ماكس فيبر سيكونون أهم المتخصصين في علم الاجتماع الديني مستنيرين باطروحات سان سيمون ومفهومه للدين ومنهج التعامل معه .

ولكن لماذا يجهد سان سيمون لاستبعاد الدين من الحياة الاجتماعية ويشدد على تشجيع التعامل الجماعي بين أفراد المجتمع ؟ ثم لماذا تنقل سان سيمون بين الكنائس مبشرا بالمسيحية الجديدة ؟

مجتمع سان سيمون

عدل

إن مجتمع سان سيمون هو مجتمع صناعي علمي، ومثل هذا المجتمع يبحث عن دماء جديدة لضخها في عروقه كما أنه يحتاج إلى وحدة معرفية ومعيارية وبالتالي لابد من القضاء على مخلفات النظام القديم بكل منظوماته وتشكيلاته ومعتقداته وتصوراته وبناه وأنماط تفكيره وتحليله إذا ما أردنا تحقيق العدالة والتقدم فكيف العمل ؟ وما العلاقة بين الدين والمجتمع الجديد ؟

يحرص سان سيمون على تجاوز الدين اعتقادا منه انه العقبة التي تشجع الفراغ. ولانه ثمة تناقض بين الفراغ والعمل الجماعي المنتج لذا ينبغي أن نغير مضمون الدين بان نكسبه مضمونا جديدا يتمثل في نظام بشري جديد. ولان الإنتاج الجماعي أو الخلق الجماعي تحديدا يقوم على الإنتاج البشري، لذا ينبغي فك التناقضات التي يعاني منها مجتمع ما بعد الثورة – أي المجتمع الصناعي – إذ يلاحظ سان سيمون أن المجتمع ما زال في حالة صراع قائم على:

  • معرفة لاهوتية ومعرفة علمية .
  • سلطة إقطاعية وسلطة صناعية .

إذن ثمة تحالف بين المعرفة اللاهوتية والسلطة الإقطاعية ضد المعرفة العلمية والسلطة الصناعية ولفك هذا التناقض أو التحالف ينبغي استبعاد الدين للسماح بمرور العمل الجماعي المنتج وقتل الفراغ .

ثانيا: تشجيع العمل والإنتاج

عدل

إن التغيير الجديد التي تريد إرساءه المقاربة الوضعية يقوم أساسا على العمل والإنتاج كيف ذلك؟

بانتشار الأفكار الوضعية بفعل انتشار الصناعة .

إذ يعتقد سان سيمون أن انتشار الأفكار الوضعية ستساعد وستشجع على انتشار الصناعة التي هي الشرط الأساسي والوحيد لقيام مجتمع وضعي ومعرفة وضعية، فالصناعة بطبيعتها تخلق مجتمعا وضعيا وتصورات وضعية في نفس الوقت استنادا الي مبدأ يعتبر أن المعرفة العملية تعني المعرفة العلمية. إذن الصناعة هي مبدأ مركزي في كل النظريات المعرفية ،هذا المبدأ نجده لدى الفكر الاشتراكي الطوباوي الذي يشمل ويعبر عنه سان سيمون وقودوين وبودون .إذ أن الفكر الاشتراكي الذي يعد سان سيمون عميده بني على مركزية مبدأ الصناعة. بمعنى أن الصناعة تشجع بطبيعتها على خلق القيم الوضعية المستقلة عن الفكر الديني والكنسي في نفس الوقت. كما نجد مركزية مبدأ الصناعة عند دوركايم من خلال كتابيه " تقسيم العمل الاجتماعي "و" الانتحار " وكذا مع ماكس فيبر في كتابه " الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية ".

قيمة الصناعة ومكانتها

عدل

إذن الصناعة في الفكر السياسي والاجتماعي الغربي عامة والفرنسي خاصة هي شرط كل التحولات النوعية والفكرية والاجتماعية .

مثال 1 :

العقلانية كما عبر عنها ماكس فيبر هي قيمة بيروقراطية وصناعية قبل كل شيء فالمجتمع الذي لا يملك بيروقراطية وأبنية صناعية لا يمكن ولا يحق له أن يدعي العقلانية.

مثال 2 :

يقيم سان سيمون مقاربة بين الانتاج والكسل وأمة كسولة وأمة عاملة ويتساءل في إطار المقاربة الوضعية : هل يمكن أن يحصل تعايش بين الأمتين ؟ لذا يطالب سان سيمون بالحزم مع الأمة الغير منتجة بضرورة إزاحتها ولتحل محلها الأمة المنتجة ولكن ما هي أداة التغيير ؟

وفي المجتمع الإقطاعي يعود سان سيمون ليؤكد على استعمال أدوات المعرفة الوضعية والعمل على القضاء على الهوة الفاصلة بين البعد النظري والبعد التطبيقي للوصول إلى وحدة المعرفة، هذا هو جوهر المقاربة الوضعية. لذا نجد سان سيمون يصر على استبدال المضمون القديم للمسيحية بمضمون جديد يعمل على تطويرها من الداخل، هذا المضمون الجديد يتمثل في كتابه " النظام الصناعي " من خلال :

  • التأكيد على سعيه إلى تكوين مجتمع حر .
  • التأكيد على نشر المبادئ والقيم التي ستكون أرضية النظام الجديد .
  • التأكيد على أن النظام الاجتماعي يستند على ثلاث فئات :

أ‌. الفنانون لأنهم يفهمون قيم التغير ويشكلون أداة تشجيع للمجتمع حتى يغير أوضاعه القائمة .

ب‌. العلماء الذين يقترحون تصورات وبدائل ووسائل عامة يمكن استعمالها لتحسين حال الأغلبية.

ت‌. الصناعيون الذين يشجعون المجتمع على القبول بالمؤسسات الجديدة .

أما منطق الترتيب أعلاه فهو التقاء الإلهام مع التفكير ومع الإبداع والمهم في هذا التصنيف أن الصناعيين يتربعون على قمة المجتمع الصناعي وفي أعلى مراتب النظام الاجتماعي الجديد. ولنقرأ أهمية المقولة التالية لـ سان سيمون :

[ لو حدثت في ليلة صماء فاجعة مفاجئة ذهبت بأكثر الشخصيات الكبرى من الأسرة المالكة والوزراء وكبار القضاة وسواهم ممن هم في هذه الطبقة، فان الشعب الفرنسي سيبكيهم حتما لانه شعب حساس، ولكن هذه الفاجعة لا تبدل شيئا مهما أو تغير تغييرا ذا اثر في أعماق الشعب، أما لو ذهبت هذه الفاجعة برؤوس العلماء والصناعيين وأرباب المصارف والبنوك … فان خسارة المجتمع فيهم كبيرة جدا لان مثل هؤلاء لا يمكن تعويضهم بسهولة !!] ( راجع : تاريخ السوسيولوجيا / غاستون بول ) .

استنتاجات

عدل

أ.) في مجتمع العدالة والمساواة، هو المجتمع الحر الذي يقوم على حركة جمعانية أي مجموعة من المواقف لم يعد الفرد فيه خاضعا

  • هذا المجتمع أُخرج الفرد من مرحلة الفكرة ليصبح مواطنا. وهذه نقلة سياسية واجتماعية .
  • أشرك الفرد مع الآخرين ( المجتمع ) في عمل جماعي واحد وإبداع واحد وخلق واحد .

هذا يعني أن الوضعية بالمضمون السان سيموني تعبر عن مردودية الفرد وليس فقط تغيرا في الأوضاع الاجتماعية والسياسية. كما يعني أن سان سيمون يراهن على دور المجموعة على التغير، هذه المجموعة التي تبنى على ثلاث مستويات وهي :

  • الإنتاج
  • التقنية
  • الصناعة

ب.) العناصر الأساسية التي اعتمدتها المقاربة الوضعية مع سان سيمون هي :

1. تحييد الدين والفكر اللاهوتي عن كل مشاركة في الحياة العملية .

2. وضع أسس مشروع علمي وفكري ومعرفي يقوم على مبدأين أساسين هما:

  • مبدأ العلمية ؛ فلا تعامل بعد الآن مع الظواهر والأشياء الا من منظور علمي .
  • مبدأ العلمنة وفيه تحييد وإقصاء صريح للدين .

هذه هي آليات التحليل العلمية التي ضمنها سان سيمون للمقاربة الوضعية وهي الآليات التي سنجدها مستعملة في النص الكونتي بطريقة أو بأخرى. هذه أيضا هي الأرضية المعرفية والعلمية التي سينطلق منها اوجست كونت ليجعل من المقاربة الوضعية أكثر قربا من الواقع والتحليل. ومبدئيا فالمقاربة الوضعية ستجمع بين مستويين رئيسيين :

1. المستوى النظري : عبر قراءة العلوم وتنظيمها وتثبيتها وهو ما قام به سان سيمون .

2. المستوى التطبيقي : وهو تطبيق عناصر المقاربة الوضعية في تحليل واقع المجتمع .

ومن هذه الأرضية المعرفية سينطلق اوجست كونت في ترتيب بيت العلوم.

الوضعيــــــــــــة - 2

عدل

أوجست كونت / A. Comt

( 1857 – 1798 )

أولا : حياته

عدل

عمل اوجست كونت سكرتيرا لسان سيمون وتأثر به اشد التأثر. واتصل بتقاليد القرن 18 الموسوعية فكان ذو سعة معرفية. وقد امتاز مجتمعه بالاضطراب والفوضى حيث المرحلة الانتقالية بين التقليد والحداثة. ونجد أن عصره امتاز بشيوع ظاهرتي النماء (التنمية ) والتقدم (التحديث). وأشد مايؤثر عنه سعيه إلى بناء شجرة المعرفة حيث صنف العلم تصاعديا: الرياضيات – الفلك - الفيزياء –الكيمياء –الأحياء وأخيرا السوسيولوجيا.

ثانيا : تأسيس علم الاجتماع بين الضرورة والحاجة

إن قيام علم الاجتماع في عصر كونت جاء كضرورة اجتماعية وحاجة علمية ملحة حتمتها الرغبة في إصلاح المجتمع وإنقاذه من الفوضى الضاربة فيه.ذلك أن حالة المجتمع الفرنسي بعد الثورة اتسمت بـ :

  • فوضى عقلية فاضطراب خلقي وفساد عام
  • وإن انسجام المصالح المادية والمنافع المتبادلة لن تحقق الاستقرار والتقدم.

لذا فإن تنظيم أي شأن من شئون الاجتماع والأخلاق والسياسة والدين لن ينجح إلا إذا سبقه تنظيم عقلي للآراء ومناهج البحث وطرق التفكير .

ماهية فوضى العقل

عدل

وجد أوجست كونت أن الفوضى العقلية ناجمة عن وجود أسلوبين متناقضين للتفكير وفهم الظواهر :

  • الأسلوب الأول :

هو الأسلوب العلمي الذي يستعمله الناس للتفكير في الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية .

  • الأسلوب الثاني :

هو التفكير الديني الميتافزيقي الذي يستعمله الناس للتفكير في الظواهر المتعلقة بالإنسان والمجتمع .

السؤال هو : كيف يمكن التوفيق بين نمطي تفكير متناقضين في وقت يسعى كونت إلى تحقيق وحدة المعرفة الإنسانية.

مصادر}}== ثلاث مقترحات لمواجهة الفوضى ==

أولا : التوفيق بين التفكيرين الوضعي والميتافيزيقي بلا أي تناقض ،فما هو محتوى التفكيرين ؟

المنهج الوضعي

عدل
  • يقوم على الملاحظة وتقرير طبائع الأشياء كما هي
  • يدرس الحقائق الجزئية وعناصر الظواهر بحثا عن أسبابها المباشرة
  • يؤمن بخضوع الظواهر لقوانين يمكن الكشف عنها
  • منهج نسبي غايته كشف القوانين العلمية

المنهج الميتافزيقي

عدل
  • يقوم على التأمل النظري والبحث المطلق.
  • يدرس الحقائق الكلية بحثا عن العلل الأولى
  • لا يؤمن بخضوع الظواهر لقوانين يمكن الكشف عنها
  • منهج مطلق غايته وضع مبادئ فلسفية لاسبيل إلى تصورها

من الواضح أن مقاربة هذين النمطين من التفكير أو أي محاولة للجمع بينهما ستؤدي إلى اضطراب عقلي في أذهان الناس. لذا ينبغي التخلي عن هذه المقاربة المستحيلة بسبب الفرو قات الحادة بين الفكرين .

ثانيا : صرف النظر عن التفكير الوضعي وإنجازاته وإخضاع كل العقول والعلوم إلى المنهج التيولوجي الميتافزيقي كمنهج عام وشامل .

هذا الحل قد يعيد إلينا الوحدة العقلية ولكن هل يمكن تحقيقه علميا؟

  • من استحقاقات هذا الحل القضاء ليس على الطريقة الوضعية فحسب بل إنكار كل الانتصارات العلمية التي تحققت في التاريخ الإنساني انطلاقا من التفكير الوضعي. مثلا علينا أن نتنكر لاختراع الطباعة وإنجازات كوبرنيك وجاليليو وديكارت وبيكون ونيوتن وغيرهم ممن اشتغلوا بالأبحاث الوضعية وأوصلوا لنا تراثا عقليا أورثونا إياه .
  • من جانب آخر فإذا تراجعنا عن الوضعية كنمط للتفكير فهل سننجح في تجميد القدرة على التفكير؟ هل نستطيع الحد من تطور التفكير وابقائه جامدا على حاله؟ وهل نستطيع أن نتحكم في قوانين الطبيعة التي حكمت على المراحل السابقة بالفساد فنمنعها من ان تحدث النتيجة نفسها؟ من المؤكد أن جعل التفكير الوضعي شيء من قبيل العدم مستحيل شكلا ومضمونا .

ثالثا : تعميم النهج الوضعي وجعله منهجا كليا عاما وشاملا لكل ظواهر الكون [= وحدة المعرفة الوضعية ]

من استحقاقاته القضاء على ما تبقى من الفكر الميتافيزيقي ومظاهره وأن يفهم الأفراد ظواهر الاجتماع اعتمادا على المنهج الوضعي بما في ذلك ظواهر الإنسان والمجتمع التي كانت تستبعد من التحليل الوضعي قبل اوجست كونت .

ولكن ثمة شرطين لفهم الظواهر على الطريقة الوضعية :

1. أن تكون هذه الظواهر خاضعة لقوانين بحيث لا تسيرها الأهواء والمصادفات. وهذا شرط متوفر في الظواهر الاجتماعية كون المجتمع جزء من الطبيعة الكلية كما أن جميع نواحي الطبيعة خضعت لقوانين ثابتة أمكن الوصول إليها .[ هذه هي جواهر الصراع بين علماء الاجتماع حول وجود قوانين للظاهرة الاجتماعية أم لا ؟]

2. هو معرفة الناس لقوانين الظواهر وهو أمر لا يتوفر إلا اعتمادا على الدراسة الوضعية عبر باحثين مهمتهم الكشف عنها. وهذه مسألة تتطلب قيام علم جديد وهو علم الاجتماع .

هكذا يمكن القضاء على الفوضى العقلية والاجتماعية والأخلاقية وتحقيق الإصلاح المنشود.

ولادة علم الاجتماع الحديث

عدل

أول اسم أطلقه كونت على العلم الجديد كان " الطبيعة الاجتماعية = الفيزياء الاجتماعية = physique social " ثم اسماه بعلم الاجتماع sociology .

مفهوم الظاهرة الاجتماعية

عدل

لم يعطها تعريفا على الرغم انه عني بتعريف الظاهرة الطبيعية والكيميائية والبيولوجية. لماذا؟

لأنه كان يرى أن علم الاجتماع يدرس كل الظواهر التي لم تدرسها العلوم السابقة عليه. ولأنه يرى من العبث تعريف الظاهرة الاجتماعية أو تحديدها باعتبار كل الظواهر الإنسانية بما في ذلك ظواهر علم النفس هي ظواهر اجتماعية .

موضوع علم الاجتماع

عدل

مثل لم يحدد كونت موضوعا لعلم الاجتماع معتبرا ان الإنسانية هي موضوع العلم وهي الحقيقة الجديرة بالدراسة والبحث. ولكن إذا كانت الإنسانية هي موضوع علم الاجتماع. فكي) .

الحالة الأولى : الديناميك الاجتماعي

عدل

تدور أبحاث كونت في هذه الحالة حول نظريتين أساسيتين هما قانون الأدوار الثلاثة وتقدم الإنسانية .

أولا : قانون الحالات الثلاث

يجيء ثمرة لدراسة كونت للديناميك الاجتماعي الذي رأى فيه:

[ دراسة قوانين الحركة الاجتماعية والسير الآلي للمجتمعات الإنسانية والكشف عن مدى التقدم الذي تخطوه الإنسانية في تطورها ]

إن ملخص القانون قانون الأدوار الثلاثة هو:

" إن العقل الإنساني أو التفكير الإنساني قد انتقل في إدراكه لكل فرع من فروع المعرفة من الدور الثيولوجي ( الديني اللاهوتي ) إلى الدور الميتافزيقي وأخيرا إلى الدور الوضعي أو العلمي " .

معنى هذا الملخص :

  • يعني أن تاريخ الفنون والنظم والحضارة إجمالا وتطورها ومظاهر القانون والسياسة والأخلاق وما إليها لا يمكن فهمه إلا إذا وقفنا على تاريخ التطور العقلي بوصفه المحور الأساس الذي تدور حوله كل مظاهر النشاط الاجتماعي والسبب في ذلك أن الفكر هو الدعامة لكل نواحي الحياة الاجتماعية .
  • ولما كان الفكر / العقل بهذه الأهمية الحاسمة فلا بد إذن أن يتبعه تطور منسجم معه في جميع نواحي الحياة الاجتماعية، وهذا يعني أن كل تغيير في الحياة الاجتماعية إنما يكون نتيجة للتطور التفكير الإنساني .

محتوى القانون

عدل

‌أ. الدور اللاهوتي :

يقصد فيه كونت أن العقل سار على أساس التفسير الديني، فقد كانت الظواهر تفسر بنسبتها إلى قوى مشخصة ابعد ما تكون عن الظاهرة نفسها كالآلهه والأرواح والشياطين وما إلى ذلك كتفسير ظاهرة النمو في النبات بنسبتها إلى الله عز وجل أو إلى أرواح النبات وعدم الأخذ بأسباب النمو الدنيوية .

‌ب. الدور الميتافزيقي ( الفهم التجريدي ) :

في هذا الدور نسب تفسير الظواهر إلى معاني مجردة أو قوى خيالية أو علل أولى لا يمكن إثباتها كتفسير نمو النبات بقوة ارواح النبات .

‌ج. الدور الوضعي ( العلمي ) :

الدور العلمي هو أن يذهب العقل في تفسير الظاهرة بنسبتها إلى قوانين تحكمها وأسباب مباشرة تؤثر فيها كتفسير ظاهرة النمو النباتي بالعوامل الطبيعية والكيميائية والقوانين المؤلفة لهذه الظاهرة .

مدى صحة قانون الحالات الثلاث

عدل

‌أ. القانون صحيح من حيث العودة إلى تاريخ العلوم من ناحية وتاريخ الإنسانية من ناحية أخرى، وقد ثبت بالدراسة والبحث لدى اوجست كونت أن كل فروع المعرفة مرت بصدد تفسيرها للظواهر من الدور اللاهوتي الي الدور الميتافزيقي انتهاء بالدور العلمي .

‌ب. يعقد كونت موازنة بين أدوار الإنسانية الثلاثة وبين الأدوار التي يمر بها الفرد في نشأته :

  • المرحلة البيثولوجية = تشبه مرحلة الطفولة لدى الفرد .
  • المرحلة الميتافيزيقية = تشبه مرحلة الشباب والمراهقة .
  • المرحلة الوضعيـة = تشبه مرحلة الرجولة والاكتمال .

هكذا تغدو الإنسانية شأنها شأن الفرد في مراحل نموها وتقدمها.

ثانيا : نظرية التقدم

عدل

الفكرة السائدة لدى أسلاف كونت من المفكرين حول الوضع الاجتماعي هي :

[ انهم درسوا الحركات الاجتماعية بوصفها اضطرابات أو ذبذبات تحصل في المجتمعات ].

فكرة اوجست كونت هي :

  • [ إن السير الاجتماعي لابد أن يكون خاضعا لقوانين ] لذا فان كونت يفهم من معنى كلمة ( التقدم ) سيرا اجتماعيا نحو هدف معين لايمكن الوصول إليه إلا بعد المرور بأدوار ضرورية محددة. هكذا تفطن كونت إلى القول بأن المجتمعات تسير وفقا لقوانين ضرورية تحدد بالضبط سير تقدمها والشروط أو الظروف الضرورية لذلك. وهو الأمر الذي لم يتوصل له سابقوه مثل بسكال وكوندرسيه وهلفيتيوس .

التقدم أو التحسن المصاحب للانتقال من مرحلة إلى أخرى

عدل

ثمة مظهرين مصاحبان الإنسانية في الانتقال وهما متلازمان :

1.تحسن في الحالة الاجتماعية :

هو تقدم مادي وهو أوضح وأسرع حركة واسهل حدوثا واقرب تحقيقا. ويتوقف حدوثه على مقدار معرفتنا بقوانين الظواهر الاجتماعية والتدخل على ضوئها لتحقيق الإصلاح أو التقدم المنشود، وبمقدار ما تعجل الإنسانية بتدخلها بمقدار ما تختصر الزمن لان عملية التقدم شاقة وبطيئة وتعترضها الكثير من الصعاب والأزمات .

2. التحسن في الطبيعة الإنسانية :

هو تحسن بيولوجي وعقلي. فالتحسن البايولوجي أدى الي زيادة عمر الإنسان أو تقدم القواعد الصحية وفن الطب. أما التقدم العقلي فأدى إلى كشف وسائل جديدة للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان لان العقل والذكاء عبارة عن آلة يمكن استعمالها بصفة مطلقة في توسيع نطاق التدخل الإنساني والإشراف على الكون ومظاهره .

الحالة الثانية : الستاتيك الاجتماعية

عدل

في هذه الحالة يتصدى كونت للمجتمع من خلال الستاتيك الاحتماعي الذي يعرفه بـ :

  • دراسة المجتمعات الإنسانية في حالة استقرارها كونها ثابتة في فترة معينة من تاريخها.
  • كذلك دراسة هذه المجتمعات في تفاصيلها وجزيئاتها من حيث العناصر والنظم الاجتماعية المكونة لها .

أما نظرة كونت للمجتمع

فهي نظرة أسست لعلم الاجتماع الدوركايمي ؛ بل لجوهر علم الاجتماع فيما بعد. فما هي نظرية كونت في المجتمع ؟

ينظر كونت إلى المجتمع باعتباره كلية اجتماعية تتكون من جميع الأفراد الأحياء منهم والأموات أو ما يمكن تسميته بالذاكرة الاجتماعية الحية والماضية بكل ما تشتمل عليه من بنى ومؤسسات وعلاقات وتراث وسلوكات وثقافات تعبر بانصهارها جميعا عن كلية اجتماعية أو ما يمكن تسميته بالتعبير الفلسفي بـ " الوجود الاجتماعي ". ويشدد كونت في بحوثه على تحليل القدرة الاجتماعية ليثبت أن الاجتماع الإنساني هو الحالة الطبيعية للإنسان وبالتالي فان المجتمع مقدم على الفرد ولا يزول بزوال أفراده.

نظرة كونت هذه للمجتمع تنسف نظريات العقد الاجتماعي التي تتعامل مع المجتمع وكأنه مركب صناعي تكون عن قصد بين الأفراد في صيغة عقد اجتماعي بينهم انتقلوا بموجبه من الحياة الوحشية \العدوانية إلى الحياة المدنية .

مكونات المجتمع : مصدر القوة الاجتماعية ؟

عدل

التحليل الستاتيكي للمجتمع حسب كونت يتكون من تحليله لثلاث مكونات هي:

  • الفرد ( نفي للعبقرية الفردية كمؤثر في تقدم البشرية )

فالفرد لا يعتبر عنصرا اجتماعيا ولا قيمة لقوته الطبيعية لأن القوة الاجتماعية مستمدة من تضامن الأفراد ومشاركتهم في العمل وتوزيع الوظائف بينهم، كما أنه لا قيمة أيضا لقوة الفرد العقلية الاباتحادها مع غير من القوى. ولا قيمة أيضا لقوة الفرد الأخلاقية وليدة الضمير الجمعي والتضامن الأخلاقي في المجتمع. وفي المحصلة فإن الفردية لا يتحقق فيها أي شئ من المظاهر الجمعية دون امتزاج العقول وتفاعل وجدانات الأفراد واختلاف وظائف وتنوع الأعمال ذات الأهداف الواحدة والغايات المشتركة .

  • الأسرة :

هي أول خلية في جسم التركيب الجمعي وهي ابسط وسط يتحقق فيه مظاهر الحياة الاجتماعية من امتزاج للعقول وتفاعل للوجدانات واختلاف في الوظائف وتنوع في الأعمال وهي أيضا اتحاد له طبيعة أخلاقية لان المبدأالأساسي في تكوينها يرجع في نظر كونت إلى وظيفتها الجنسية والعاطفية، إذ ثمة ميل متبادل بين الزوجين من جهة وعطف متبادل بينهم والأبناء من جهة أخرى .فالمشاركات الوجدانية موجودة بين افراد هذ المجتمع الصغير وثمة واجبات على كل فرد في الأسرة ثمة وتربية ونزعة دينية يغرسها الوالدان في أولادهم.

  • المجتمع :

هو وحدة حية ومركب ومعقد أهم مظاهره التعاون والتضامن لذا فهو من طبيعة عقلية ووظيفية أخلاقية تابعة لها ولاحقة ومترتبة عليها. أما مبدأ التعاون والتضامن فهو الذي يحكم المجتمع ويسيطر عليه. هذا المبدأ يسمى " تقسيم العمل وتوزيع الوظائف الاجتماعية " لدى المفكرين المحدثين .

يرى كونت أن التضامن الاجتماعي مبدأ لا يمكن أن يتحقق بصورة كاملة إلا إذا وجه المسؤولون عنايتهم إلى إصلاح ثلاث نظم اجتماعية أساسية هي :

1.نظام التربية والتعليم

عدل

يعتقد كونت أن النظام التربوي والتعليمي ينبغي أن يكون نظاما وضعيا مبنيا على أسس علمية مرنة وبديلا عن النظام الميتافزيقي ذو النظرة المجردة .وهذا يستوجب فصله عن السياسة لإبعاده عن النفاق والإثارة للخصومات وإفساد الطبائع. كما يرى ضرورة تقسيم مراحل التعليم إلى ثلاثة مراحل هي الابتدائية والثانوية والعالية .

2-إصلاح نظام الأسرة

عدل

دعا كونت لأن تبنى الأسرة على أساس الأخلاق وترويض الأفراد على تقبل مبدأ التضامن الاجتماعي ونبذ الأنانية. ولهذا الغرض منح الأم دور كبير في التنشئة الاجتماعية والتربية وغرس مبادئ الدين الوضعي في الأطفال أو ما اسماه كونت بـ" عبادة الإنسانية " .


3-إصلاح النظام السياسي

عدل

الحكومة هي دليل على تقدم المجتمع وليست شرا لابد منه مثلما كان سائدا في القرن 18 لأن تقدم المجتمع مرهون بمدى انقياد الأفراد للحكومة ومدى بسط سلطتها عليهم، أما وظيفتها فهي تحقيق مبدأ التضامن الاجتماعي والحرص على وحدته، وعلى الحكومة أن ترعى وظيفتها المادية والروحية أي الجمع بين السلطتين الزمنية والدينية وأن تعمل على حفظ الدين وحمايته وغرسه في قلوب الأفراد .

ويجدر التذكير أن كونت درس النواحي الاقتصادية والأخلاقية والدينية في المجتمع، ونقد النظريات الاقتصادية السائدة في عصره وكذا الأخلاقية والحاجة الماسة إلى مجموعة منظمة من العقائد. ولكن أيضا للنظريات الاقتصاديه تاثير كبير على مدى الترابط الأسرى بغض النظر عن المستوى المعيشي للاسره.

ثالثا : أسس الدراسة ومنهج البحث

عدل

أهم أسس البحث الوضعي

1. تشدد الوضعية كنمط تفكير علمي على إحلال فكرة القانون محل فكرة القوى الخارقة للعادة التي تحكمت طويلا بتفسير الظواهر العلمية .

هكذا فان الوصول إلى القانون العلمي الذي يحكم سير الظاهرة ويفسرها سيكون في إطار الوضعية المطلب الأول والمحور الأساسي الذي تدور عليه الدراسة والبحث .

2. إن من مبادئ الفلسفة الوضعية أيضا إخضاع التخيل أو التصوير الفلسفي الذي كانت تقوم عليه المناهج القديمة إلى الملاحظة. وهكذا ضُرِبت الفلسفة الثيولوجية والميتافيزيقية في الصميم .

3. يستند منهج البحث الوضعي إلى إعطاء العلاقات التي تربط بين الظواهر الاجتماعية أهمية كبرى انطلاقا من أن الفلسفة الوضعية تعتبر نفسها مفسرة للكون ومظاهره وتسعى إلى الكشف عن طبائع الأشياء والقوانين التي تحكمها وهذا بخلاف المناهج القديمة التي لم تعطينا فكرة واضحة عن تحديدها للعلاقات بين مختلف الظواهر وعن الارتباط الحقيقي بينها .

4. إذا كانت المناهج القديمة تنزع في تفسيرها للظواهرإلى المعاني المطلقة والمبادئ الكلية والعلل الأولى مما يجعلها منتجة لمفاهيم جامدة غير قابلة للتطور فان الوضعية كفلسفة تهتم بتحديد دائرة المعاني المطلقة وجعلها معاني نسبية مرنة قابلة للحركة والتطور بما يستجيب لنمو العقل ومستحدثات العصر ومتطلبات الظروف .

منهج البحث

عدل

ثمة نوعين من البحوث التي تؤدى إلى كشف الحقائق في ميدان الظواهر الاجتماعية، ويستعمل أحد هذه الأنواع ما يسميه كونت بالوسائل المباشرة والآخر بالوسائل غير المباشرة .

  • الوسائل المباشرة :

وهي الخطوات المنهجية التي نستخدمها لكشف القوانين التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية في نشأتها وتطورها ووظائفها ومجموع هذه الخطوات تكوِّن قواعد منهج البحث الاجتماعي .

  • الوسائل غير المباشرة :

تنتج هذه الوسائل التي لا تقل أهمية عن المباشرة من رحم العلاقات الضرورية التي تربط علم الاجتماع بما عداه من العلوم الوضعية الأخرى التي تمده بصفة دائمة بنتائج وحقائق وقضايا لها أهميتها في ميدان البحث الاجتماعي .

الوسائل المباشرة

عدل

1. الملاحظة

ليست هي الإدراك المباشر للظاهرة أو وصف للحوادث. إذ ثمة وسائل أخرى تكون مصاحبة لهذه التقنية بحيث تطور وتعمق من فهمنا للظاهرة الملاحظَة :

مثلا :

  • دراسة العادات والتقاليد والآثار ومظاهر التراث الأخرى .
  • تحليل ومقارنة اللغات.
  • الوقوف على الوثائق والسجلات التاريخية .
  • دراسة التشريعات والنظم السياسية والاقتصادية .
  • الاهتمام بكل مصادر المعرفة التي تساعد على الكشف العلمي.

السؤال : هل الملاحظة وسيلة أم أسلوب علمي ؟

v لان الظواهر الاجتماعية هي ظواهر عادية ومنتشرة ومتداخلة في صميم الحياة الفردية بحيث يكون الباحث نفسه مشاركا فيها إن قليلا أو كثيرا ...

v ولان الظواهر الاجتماعية معقدة أو كثيرة التغير ودائمة التفاعل بحيث أن الباحث قد لا تتوفر له الفرصة للإحاطة واليقظة بالظاهرة والإشراف عليها وملاحقتها ...

v ولان الباحث قد يخطئ في تأويل أو إدراك ما يلاحظه في الظاهرة مما ينعكس على الاستنتاجات وبالتالي اختلاف عقول الباحثين في ملاحظة الظاهرة إياها ...

فإن كونت يرى انه لا باس من اعتبار الملاحظة عاملا مساعدا للكشف العلمي عن قوانين الظواهر ولكن بدون الإسراف البالغ في الاعتماد عليها وتحويلها من وسيلة إلى أسلوب .

2. التجربة :

يميز كونت في هذا السياق بين " التجربة الاجتماعية " التي تطبق على ظواهر المجتمع وبين " التجربة العلمية " التي تُجرى على الظواهر الطبيعية كالكيمياء والبيولوجيا. وما يهمنا ويهم كونت هو التجربة الاجتماعية .

جوهر التجربة الاجتماعية ؟ وصحتها ؟

عدل

في البحوث العلمية حيث تجرى التجارب على الظواهر الطبيعية ؛ وبهدف استخراج القوانين يلجأ الباحث عادة إلى إجراء تجارب مقارنة بين ظاهرتين متشابهتين في كل شيء ولكنهما مختلفتين في حالة واحدة وهذا الاختلاف بين الظاهرتين يرجع إلى هذه الحالة فقط. ومهمة الباحث هي معرفة هذا العامل ( القانون ) الذي تسبب باختلاف الظاهرتين ثم دراسة مدى تأثير العامل الطارئ هذا على ظاهرة أخرى .

السؤال هو: هل لدينا وسائل تمكننا من إجراء تجارب من هذا القبيل في علم مثل علم الاجتماع ؟ بمعنى : هل يمكن استعمال التجربة كوسيلة في معاينة الظواهر الاجتماعية ؟

الجواب :

يعتقد كونت إن المجتمع مثل جسم الإنسان لا بد وأنه يتعرض إلى حالات مرضية سابقة من حين إلى آخر بفعل عوامل طارئة وتيارات ظرفية كالثورات والفتن والانقلابات، وهي حالات تحدث بلا شك طبقا للقوانين الستاتيكية والديناميكية. ولا ريب أن دراسة الحالات الباثالوجية هذه في المجتمع ستؤدي إلى تكون رصيد معرفي يساعد في إعادة المجتمع إلى سيره المعتاد.

سؤال آخر : إلى أي حد تصلح التجربة كوسيلة فعالة في دراسة الظواهر الاجتماعية ؟

جواب :

إذا تمكن الباحث من الوقوف من قبل على القوانين التي تخضع لها الظواهر في حالتها العادية حتى يمكن الكشف عن العامل الطارئ الذي سبب الحالة المرضية. ومع ذلك ليست التجربة وسيلة مجدية ولا مواتية في كل الظروف والمناسبات وبالتالي فهي غير فعالة .

3. المنهج المقارن

عدل

§ مفهوم المقارنة

المقارنة الاجتماعية هي وسيلة منهجية تتأسس على تحديد اوجه الشبه واوجه الاختلاف بين الظاهرتين، ويبين كونت ثلاثة أشكال للمقارنة الاجتماعية كما سنوضح .

§ أشكال المنهج المقارن :

أولا : مقارنة في مستوى الماكرو وسوسيولوجي " مقارنات واسعة "

  • مقارنة المجتمعات الإنسانية ببعضها .
  • مقارنة ظاهرتين في مجتمعين أحدهما تطورت بسرعة وأخرى بطيئة التطور .
  • ملاحظة وجود مجموعة من النظم في مجتمع بينما لاتؤدي الظاهرة نفس الوظيفة في مجتمع آخر أو ليست بالدرجة نفسها.

ثانيا : مقارنة في مستوى الميكرو وسوسيولوجي " مقارنات أضيق نطاقا "

مثلا كأن تقع مقارنة في مجتمع واحد بين الطبقات أو الهيئات والمؤسسات أو في مستوى المعيشة، والأخلاق، الأذواق العامة، اختلاف اللهجات ...الخ، درجة التحضر والتريف .

ثالثا : مقارنات أكثر شمولا وعمومية وأوسع نطاق

عدل

مثلا مقارنة جميع المجتمعات الإنسانية في عصر ما بالمجتمعات الإنسانية نفسها في عصر آخر للوقوف على مدى التقدم الذي تخطوه الإنسانية في كل طور من أطوارها ومعرفة درجة التطور ما بين الشعوب الإنسانية.

4. المنهج التاريخي " المنهج السامي "

§هو آخر حجر في بناء المنهج الوضعي ويقصد به كونت :

" المنهج الذي يكشف عن القوانين الأساسية التي تحكم التطور الاجتماعي للجنس البشري باعتبار أن هذا الجنس وحدة واحدة تنتقل من مرحلة الي أخرى أرقى منها " .

§ وهو المنهج الذي أقام كونت على أساسه " قانون الأدوار الثلاثة ".

§ وهو منهج يعبر عن فلسفة كونت نفسها أكثر مما يعبر عن حقائق علمية، لان كونت نفسه يقدم وسائل منهجية لدراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية تنسف ما يدعيه لا سيما أن الظواهر تتطور أو تبطئ أو تؤدي وظائف مختلفة في مجتمعات مختلفة، كما أنه يقر بالتباين والاختلاف لنفس الظواهر وما بين المجتمعات .

§ فلماذا ينظر إلى الإنسانية كوحدة واحدة في التطور والتقدم ؟ وكيف يفسر كونت الآن وجود دول متقدمة وأخرى متخلفة وأخيرة بدائية إذا كان خط التقدم والتطور واحدا ؟

المدارس الاجتماعية ما بعد الوضعية

عدل

بعد شيوع الوضعية وتأسيس علم الاجتماع ظهرت العديد من المدارس الاجتماعية التي نشطت في جمع المعلومات عن الظواهر الإنسانية والاجتماعية أو حاولت تفسيرها وتحليلها، ومن هذه المدارس نعرض لبعض منها :

§ المدرسة الاجتماعية البايولوجية :

لا تعترف هذه المدرسة باستقلالية الظاهرة الاجتماعية بل تعتبرها مظهرا من مظاهر الحياة اليومية. كما ترى أن الظاهرة الاجتماعية في نشأتها وتطورها تسير وفق القوانين التي تسير عليها الظواهر البيولوجية .

§ المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع :

يتزعمها إميل دوركايم واتباعه مثل مارسيل موس وليفي بروهل ودي سوسير وبولجيه وهاليفاكس وكوهين وغيرهم. وقد التزمت هذه المدرسة بحدود الوضعية الكونتية بل أنها أرست الوضعية الصحيحة. واعترفت باستقلال علم الاجتماع والظواهر الاجتماعية وقدمت دراسات ميدانية ممتازة. وتميزت أبحاثها بالدقة العلمية وبذلت جهدا نظريا ضخما في إقامة دعائم علم الاجتماع وتحديد مناهجه وميادينه.

§ المدرسة المادية التاريخية ( كارل ماركس )

تذهب هذه المدرسة إلى اعتبار أن كل ما يحدث في المجتمع وما ينشأ فيه من ظواهر ونظم انما يرجع إلى الطبيعة الاقتصادية. فالظروف الاقتصادية هي العامل الوحيد الذي يشكل نظم الاجتماع والسياسة والأخلاق والدين وبالتالي فالمادة الاقتصادية هي قطب الرحى في التطور السياسي والأخلاقي والاجتماعي .

§ المدرسة الجغرافية ( برون وميشليه )

تعتبر هذه المدرسة ان ظواهر المجتمع هي وليدة البيئة وظروفها العمرانية والطبيعية. لهذا فقد فسرت كل ما يحدث في المجتمع بالرجوع إلى الظواهر الجغرافية وقامت بهذا الصدد بتطبيقات تعسفية .

§ المدرسة النفسية ( جابرييل تارد وغوستاف لوبون )

وهي المدرسة التي خسرت خصومتها التاريخية مع إميل دوركايم واتباعه. لماذا ؟ لأنها لا تعترف باستقلال علم الاجتماع بل تلحقه بعلم النفس وبالتالي فهي تفسر الظواهر الاجتماعية بمبادئ وأصول سيكولوجية. هذه المدرسة تعتبر الظواهر الاجتماعية وليدة الارادة الفردية في التقليد والمحاكاة .

§ المدرسة الاثنولوجية ( تين : Tain، ميشليه : Michelet، ممن : Momen )

تفسر الظواهر الاجتماعية بالرجوع إلى فكرة الجنس

§ مدرسة الانثربولوجيا الاجتماعية = دراسة المجتمعات البدائية :

مدرسة واسعة تزعمها الكثير من العلماء امثال فريزر وستمارك Frezer Westrmarek وMaclenanو lang وTaylor وRivers وB. smith وGillen. وقد اهتمت هذه المدرسة بدراسة المجتمعات البدائية وأشكالها التي ما تزال قائمة سواء في أمريكا أو أستراليا أو أفريقيا واسيا فتعرف روادها على النظم الاجتماعية الأولى، واتسم الرواد بأنهم جمّاعين مهرة للمعلومات غير انهم اقل قدرة على التحليل، هذا النقص الذي بدأته المدرسة الأنثروبولوجية تداركته مدرسة دوركايم .

المدرسة الاجتماعية البيولوجية

عدل

هر برت سبنسر / H. spensser

( 1820 - 1903)

أولا : حياته العلمية

§ بدأ حياته مدرسا ثم مهندسا. ولكنه ترك وظيفته واشتغل بالسياسة والأدب والاجتماع واعتنق مذهب التطور " في النشوء والارتقاء " ووصل إلى حقائق دقيقة قبل أن ينشر داروين بحوثه. ولما نشر سنة 1850 كتابه " الستاتيك الاجتماعية " اخذ نجمه يسطع فكتب بعد ذلك في علم الحياة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والتربية، والسياسة .

§ حاول تطبيق فكرة " النشوء العضوي والتطور " على الكائنات الحية في ميدان علم الأحياء وعلى الإنسان في ميدان علم النفس والأخلاق وعلى المجتمع في ميدان علم الاجتماع والسياسة .

ثانيا : المبادئ العامة لفلسفته

‌أ. يتحدث سبنسر عن نفسه قائلا :

[ " أن جرثومة فلسفتي ظهرت عندما توصلت إلى حقيقة بيولوجية أساسها :

إن الأنواع الدنيا من الحيوان تتألف أجسامها من أجزاء متماثلة لا يتوقف بعضها على بعض واما الانواع العليا من الحيوان فتتألف أجسامها من أعضاء متباينة تعتمد في أعمالها ووظائفها على بعضها البعض. وهذه نتيجة استقرائية وصلت إليها من بحوثي وتجاربي في ميدان الدراسات البيولوجية. وهذه الحقيقة تصدق كذلك على جماعات الأفراد .فكأن المجتمع شأنه شأن أي كائن حي يبدأ متجانسا ثم يميل إلى التفرد والانتقال من المتجانس إلى اللا متجانس " ].

تشتمل مقولة سبنسر عن نفسه المبادئ العامة لفلسفته، وهذه المبادئ تقوم على التكامل / التجانس والتباين / اللاتجانس والعلاقة بينهما. كيف ؟

انطلاقا من مبدأ " النشوء والارتقاء " يمكن القول :

أن الارتقاء في جميع مسالك الطبيعة من نبات وحيوان واجتماع إنساني وما يتصل بهذا الاجتماع من شؤون تتعلق بالأخلاق، السياسة، الفنون والعادات إنما يقوم على أساس واحد هو " الانتقال من التماثل والتشابه إلى التباين وعدم التجانس ". كيف؟

حقائق بيولوجية

عدل
  • نماذج الأنواع

أ. نماذج التماثل والتشابه أو التجانس :

إن الأنواع الدنيا من النبات يكون التشابه فيها أكثر وضوحا من الاختلاف في حين أن الأنواع العليا من النبات يكون الاختلاف فيها بارزا. كما أن الأنواع الدنيا في الحيوان تكون هي الأخرى متماثلة كالأميبيا والإسفنج .

ب. نماذج الاختلاف والتباين أو اللاتجانس :

في النباتات الراقية يمكن ملاحظة الاختلاف في ميدان التذكير والتأنيث. وفي الحيوان يعتبر الإنسان هو الأرقى ولاشك أن الاختلاف اشد وضوحا .

  • مميزات الأنواع

في الأنواع الدنيا من النبات والحيوان فان الجزء يؤدي حصرا وظيفة الكل فإذا قطعنا جزء من جسم الإسفنج فالحياة مستمرة لان باستطاعة الجزء أن يعيش ويقاوم حتى يصل إلى حالة التماثل الأولى وكذلك الأمر في بعض النباتات. هذا يعني أن التطور لن يصل في احسن الأحوال إلا إلى حالة التجانس أما اللاتجانس فلا. هذا يعني أيضا أن الجزء مستقل عن الكل حيث قوى النمو والتوالد كامنة فيه .

أما في الأنواع العليا من النبات والحيوان فان الجزء لا يؤدي وظيفة الكل كما أن الجزء مستقل عن الكل نسبيا غير أن التباين والاستقلالية لا تعني الانفصال بل التكامل كما أن العضو مثلا في الإنسان لا تكمن فيه قوى النمو والتوالد لذا فهو يؤدي وظيفة معينة إلى جانب وظائف الأعضاء الأخرى بحيث أن عملية التكامل الوظيفي تؤدي إلى وحدة القصد والهدف .

  • القانون العام :

من هذه الحقائق البيولوجية يستخلص سبنسر القانون التالي :

" أن في الحياة ميلا إلى التفرد والتخصص والانتقال من المتجانس إلى اللامتجانس ومن المتشابه إلى المتباين. فالجماد أو الجسم غير الحي كذرات التراب، النار والهواء يكون متماثلا وغير متخصص في حين أن الجسم الحي يتمتع بذاتية وينفرد بشخصيته ويؤدي وظيفة خاصة ومحدودة يتعين عليه أن يؤديها وكلما زاد الكائن الحي ارتقاءا زاد تفرده وتخصصه ظهورا " .

وهكذا يقرر سبنسر أن التخصص هو غاية كل تطور وارتقاء في الموجودات.

  • دعائم القانون :

حسب تحليل سبنسر فالقانون يقوم على دعامتين :

أولا : كلما ازداد المركب الحيوي تعقيدا ازداد تخصصا وتفردا .

ثانيا :كلما ازدادت الأعضاء تفردا واختصاصا ازدادت استقلالا

  • من الحقائق البيولوجية إلى الحقائق الاجتماعية

"من ميدان البيولوجيا إلى ميدان الحياة الاجتماعية "

نشط سبنسر في تطبيق ما توصل إليه في الميدان البيولوجي على الميدان الاجتماعي :

1. الأفراد وحياة الفطرة

اتسمت حياة الجماعات البشرية الأولى بالتشابه والتماثل في انتسابهم إلى مجتمع تتشابه فيه طرق المعيشة والحاجات والغايات ووسائل العيش والاقتصاد والنمو والدفاع والأمن والزواج والدين والمعتقدات والأساطير...الخ

وفي مرحلة ما حدث تطور في الحياة الاجتماعية والانتقال من سذاجة الفطرة إلى مرحلة أكثر ارتقاء لوحظ فيه ظهور الفوارق بين الأفراد وتقاسم وظيفي لشؤون الأسرة والعمل وما إلى ذلك من شؤون الحياة الاجتماعية .

وفي مرحلة أكثر تطورا ورقيا لوحظ ازدياد في التخصص والاستقلالية الفردية .

2. انقسام المجتمعات :

§ كلما ازداد التخصص والتفرد كلما انقسمت المجتمعات إلى طبقات أكثر .

§ شيوع ظاهرة التخصص والتفرد في أدق مظاهرها .

تعقيب / تساؤل : هل التخصص والتفرد يشكلان مصدر قوة أم ضعف للمجتمع ؟ تماسك أم تفكك ؟

إن الإسراف في التخصص لا يعني استقلال كل كائن عن الآخر أو كل طائفة اجتماعية عن بقية الطوائف الأخرى في المجتمع وعلى العكس من ذلك فالتخصص ينطوي على التضامن والتعاون ويتجه نحو التآلف ؛ فالعدالة تستوجب ضمانات لتحقيقها كالقضاة والمحامون ووكلاء الدفاع والكتاب والمحضرون بحيث ينصرف كل إلى عمله ليتحقق القصد والهدف العام كما أن التآلف ينسحب على الدور التكاملي الذي يؤديه كل من التاجر والصانع والطبيب والمدرس وعامل النظافة والمزارع والجندي والشرطي بحيث ينصهر الجميع في بوتقة واحدة تنزع نحو وحدة القصد والهدف رغم التفرد والاختصاص .

ملخص نظرية سبنسر

عدل

تتلخص النظرية التطورية عند سبنسر في :

§ الانتقال من التشابه إلى التباين أو من التعميم إلى التخصص أو من الاستقلال الانعزالي ( فوضى الشيوع ) إلى النظام والتدرج .

§ هذه المعاني لا تتغير، فهو شرحها في كتابه " المبادئ الأولى " وفي كتبه الأخرى " مبادئ علم النفس وعلم الحياة وعلم الاجتماع ".

=== ثالثا : نظريته في طبيعة المجتمع === سبنسر

‌أ. المحددات النظرية :

إن نظرية سبنسر في المجتمع تنبع أصلا من فلسفته في التطور الاجتماعي هذه الفلسفة ستؤدي حتما إلى مماثلة بين المجتمع والكائن الحي ولكن بشرط. أي أن المجتمع فقط يشبه الكائن الحي ولكنه يتطابق معه. كيف ؟ عبر ثلاث ماهيات .

1. ماهية المجتمع :

حسب داروين وهيغل بصفة خاصة يتفق سبنسر على اعتبار المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون وبالتالي فهو يرفض الفكرة التي تعتبره شيئا خارجا عن هذا النظام .

2. ماهية علم الاجتماع :

إن اعتبار المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون يستوجب، حسب سبنسر، النظر إليه كفرع من منظومة التفسير الطبيعي التي تطبق على سائر مظاهر الكون وليس على المجتمع فقط. وعلى هذا الأساس فإن علم الاجتماع هو محاولة لمعرفة نشأة المجتمع وتركيبه وعناصره وهيئاته ومراحل نموه وتطوره وما إلى ذلك من المظاهر التي تخلفها العوامل الطبيعية والنفسية والحيوية بوصفها عوامل تعمل متضافرة في عملية تطورية موحدة .

3. ماهية التطور الاجتماعي :

هكذا فان التطور الاجتماعي ليس إلا عملية تطورية عضوية ليس بالمعنى البيولوجي النصوصي بل بالمعنى الاصطلاحي الذي يخلص سبنسر إلى تسميته بالتطور فوق العضوي .

‌ب. التطور فوق العضوي : ما هو ؟ = التطور العضوي ؟

إن التحدث عن تطور عضوي ( بمعنى بيولوجي ) وتطور فوق عضوي ( بمعنى اصطلاحي ) يعني أن سبنسر بصدد الحديث عن مقارنة الكائن الحي من جهة والمجتمع من جهة أخرى. وبما أن المنهج المقارن يستوجب ضبط التشابهات ( التماثلاث ) والاختلافات ( التمايزات ) فمن الواضح أن سبنسر عندما يتحدث عن عناصر تشابه بين المجتمع والكائن الحي إنما يتحدث أيضا عن فروقات لذا نراه دقيقا في اختياره للمصطلحات والمفاهيم بالقدر الذي يسمح له ببناء نظرية تجد لها موقعا ملائما بين النظريات الاجتماعية التي أعقبت ظهور علم الاجتماع على يد اوجست كونت .

السؤال : ماهي طبيعة الفرو قات بين التطور العضوي والتطور فوق العضوي ؟

جواب :

لدى مقارنته للمصطلحين في نطاق المجتمعات الحيوانية يرى سبنسر أن التطور فوق العضوي وإن كان موجودا في مجتمعات النمل والنحل مثلا بوصفها مجتمعات راقية إلا انه يبقى اقل وضوحا. إذن المسألة تتعلق بمدى تعقد المجتمعات المدروسة، أي بمدى تخصصها، وفي هذا السياق يعقد سبنسر مقارنة بين المجتمعات الحيوانية والمجتمعات البشرية، فماذا يلاحظ؟

يلاحظ أن المجتمعات الحيوانية ليست معقدة كالتعقيد الذي يمكن ملاحظته في المجتمعات البشرية. لماذا ؟ وأين يكمن التعقيد؟ مبدئيا فإن الاجتماع الحيواني يشتمل على ضرب من السلوك والأثر ما هو أشد تعقيدا مما لدى الاجتماع الإنساني، غير أن الاجتماع الإنساني ينطوي على تفاعل في مستوى العلاقات الإنسانية وتشابك المصالح والرغبات بين الأفراد مما ينجم عنه ضروبا من السلوك والآثار أشد تعقيدا وأشد تنوُّعا إلى الحد الذي يجعله أرقى صورة للتطور العضوي.

‌ج. محتوى المماثلة البيولوجية

المجتمع كائن حي ؟

في ضوء ما سبق، وحسب سبنسر، فإن :

§ المجتمع عبارة عن كائن عضوي أو مركب عضوي يشبه الجسم الحي .

§ عناصر المجتمع وهيئآته تشبه نظائرها في الكائن الحي. كيف؟

1. من حيث التشابهات :

فالمجتمع كالفرد مزود بجهاز للتغذية يتمثل في هيئاته وطبقاته المنتجة، ومزود بدورة دموية تتمثل في نظم التوزيع وطرق المواصلات، ومزود بجهاز هضمي وإخراجي يتمثل في نظام الاستهلاك، ومزود بجهاز عصبي يتمثل في الحهاز التنظيمي والإدارة والحكومية التي تتولى قيادة المجتمع والاشراف على مصالحه.

2. من حيث الفروقات :

v ان عناصر الكائن الحي تكون كلا متماسكا ومتحددا بصفة مباشرة .هذه الكلية تتمظهر في اتحاد مادي محسوس لجميع العناصر .

V ولكن في المجتمع فان العناصر / العوامل إنما تؤدي إلى الوحدة / الكلية لانها عناصر خارجية وليست عضوية كما هو التركيب العضوي للفرد. وهذه العوامل تتجلى باللغة والعواطف والانفعالات والافكار والمعتقدات والتقاليد والعرف ...الخ

v ان الجهاز العصبي ـ مثلا ـ في عقل الكائن يشغل جزء صغيرا من التركيب البيولوجي \العضوي للفرد، بينما في المجتمع نجده ممثلا بالجهاز التنظيمي والإدارة والقيادة. أي أنه موزع بين الافراد ولكل إنسان الحق في المساهمة فيه في اطار توجيه المجتمع .

v المجتمع يشبه الفرد من حيث النشأة والتكوين، حيث ينشأ بصورة بسيطة ضيقة النطاق ثم يأخذ حجمه بالنمو وعدد افراده بالتكاثر. اذن المجتمع يشبه الكائن الحي في حالة النشأة أي في الحالة التي يتبعها تميز في الهيئات والاعضاء والتركيب المعقد [ انتقال من التجانس اللامحدود الي التباين المحدود ] ولكن نمو المجتمع لا يكون عن طريق التزايد البسيط الضيق بل من خلال اندماج هيئاته واتحاد بعض المجتمعات الصغيرة وتفاعل اتجاهاتها والتيارات التي تسودها، هنا تبدأ حالة التعقيد في بنية المجتمع وتركيبه .

المجتمع بين الاستقرار والانحلال

عدل

يقضي قانون النشوء والارتقاء بخضوع الكائنات الحية لوجهي القانون. فإذا كان الكائن الحي ينشأ وينمو فهو أيضا ينحل. وهكذا المجتمع حين يشبهه سبنسر بالكائن الحي فهو حتما خاضع للوجه الآخر للقانون وهو الضعف والانحلال .

1. استقرار المجتمع :

ان نشوء المجتمع مرحلة تتواصل مع مرحلة النمو، وما بين اكتمال نمو المجتمع وتعقيده من جهة وانحلاله من جهة أخرى ثمة مرحلة استقرار يبلغ فيها المجتمع من القوة ما يزيد من اندماج عناصره وهيئآته وتماسكها. في هذه المرحلة يكون المجتمع في أوج استقراره. فما الذي يحدث عند استقرار المجتمع ؟

ما ان تستمر الحياة لاجتماعية إلى حد ما حتى تاخذ الظواهر والنظم الاجتماعية في الارتقاء والتطور، وهذه العملية تعني الانتقال من حالة التجانس إلى حالة التباين والتخصص. وخلال انتقالها من حالة إلى حالة فإن الظواهر والنظم الاجتماعية ستتاثر بنوعين من العوامل :

§ العوامل الداخلية :

تتعلق هذه العوامل بالناحية الفردية. أي كل الخواص الفردية ذات الصلة بالتكوين الطبيعي والتكوين العاطفي العقلي للافراد الذين يكوِّنون المجتمع. فالظواهر التي تقوم في المجتمع تنشأ في واقع الأمر متاثرة بالخواص الفردية هذه. بمعنى ان الافراد يشكلون ظواهر المجتمع وفق الخواص المشار إليها.

§ العوامل الخارجية :

هي كل العوامل التي تقع خارج نطاق الخواص الفردية ولكنها تؤثر على الافراد تأثيرا مباشرا وعلى الظواهر الاجتماعية بوصفها نتاج لأوجه نشاط الافراد .هذه العوامل هي البيئة : كالبيئة الجغرافية والطبيعية وظروف المجتمع المناخية وموقعه وما إلى ذلك من المؤثرات البيئية .

2. انحلال المجتمع :

ان ارتقاء وتطور المجتمع عملية تنسحب على شتى مناحي الحياة الاجتماعية من نمو في الوحدة السياسية ( الأسرة، قبيلة، مدينة، دولة، هيئة، أمم...الخ ) والوحدة الاقتصادية (صناعة منزلية، مهن، ثورة صناعية آلية ثم ثورة صناعية كهربائية، وكذلك نظم الشركات المساهمة والاحتكار والاستعمار...الخ ) ونمو في الوحدة السكانية (عائلة ثم قرية ثم مدينة ...الخ )...الخ

ان التطور كان وما يزال مصحوبا بظاهرة ملازمة هي ظاهرة " تنافر القوى وتنوع الوظائف وتفرع الاختصاصات ". فالعامل الاجتماعي ازداد تنوعا فيما ازدادت المهن والصناعات تخصصا وخضعت مظاهر الإنتاج الأخرى لهذه المبادئ. لا بل نجد تنوعا بين خصائص الريف والمدن وبين دولة وأخرى أو بين وحدة اقليمية وأخرى، وفي كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية نجد تطبيقات صحيحة لهذه المبادئ في السياسة والدين والاخلاق والعلم والفن والاقتصاد.

وفي المقابل نجد انحلال يعقب التطور. إذ ثمة مجتمعات تضعف بعد قوة ومدنا تتقوض وتنحل وتفقد مكانتها، ودولا يحل بها الظلم والهوان والفقر والتخلف بعد مجد وسلطان وأخرى تقوم من جديد وتأخذ بأسباب النشوء والارتقاء في عملية خلق متجددة في الحياة الإنسانية .

  • تعقيــب

ولكننا نلاحظ دولا وشعوبا وقبائل تأبى الانعتاق من تخلفها وبدائيتها مقابل دول وشعوبا تصر على ديمومة الارتقاء وعدم الانتكاس .

رابعا : نظريات سبنسر في شؤون المجتمع

عدل

كثيرة هي النظريات التي يعرض لها سبنسر في فلسفته الاجتماعية، منها ما يتعلق بالشؤون السياسية والاقتصادية وبعضها يتعلق بالشؤون الاخلاقية والدينية .

  • نظريته في تصنيف المجتمعات
يقسم سبنسر المجتمعات باعتبارين :

1. من ناحية التكوين المورفولوجي : مجتمعات بسيطة أومركبة

في هذا النوع تكون الوحدات الاجتماعية أو التجمعات البشرية متجانسة بما يشبه الفوضى البدائية شأنها في ذلك شأن الأنواع الدنيا من الحيوان ثم تاخذ في النمو كما ينمو جسم الإنسان فترتقي وتتجه بالتدريج نحو التعقيد في التركيب والتنوع في الوظائف والظواهر والنظم ومن ثم الاستقرار. ومن الضروري أن يحدث اتحاد بين هذه التجمعات إما عن إرادة وقصد وإما عن طريق القهر والتغلب لكي يحصل الانتقال من حالة التجمعات البسيطة الساذجة إلى حالة التعقيد والتركيب .

2. من ناحية الوظيفة : مجتمعات حربية أو صناعية

يرى سبنسر أن بعض المجتمعات من يعيش سكانها رغبة في القتال كالتي سادت نظم الحياة الاقطاعية في أوروبا سابقا وهو حال المجتمعات الحربية. وهناك من المجتمعات من يقتصر عيشها على مكافحة المتاعب في الحياة والصراع في معركتها. مثل هذه المجتمعات ليس لها غاية الا العمل للتغلب على مصاعب الحياة وهو حال المجتمعات الصناعية .

النظرية الوظيفيــــــة

عدل

أولا : جذور النظرية

لما نتعرض للوظيفية بالدرس والتحليل والفهم علينا أولا ان نأخذ بعين الاعتبار ان للنظرية الوظيفية :

1. جذورا ابستيمية ومعرفية تسبق تحول الوظيفية إلى نظرية، ولما نبحث عن الجذور فاننا في الواقع نقوم بمقاربة للوظيفية كمفهوم قبل ان نقف عليها كنظرية هذه الجذور المعرفية نجدها لدى علماء الاجتماع الأوائل امثال سان سيمون واوجست كونت واميل دور كايم ومارسيل موس وحتى كارل ماركس وماكس فيبر. وهي في وضعها هذا لا تعدو ان تكون مجرد مقاربة ولكنها قابلة للارتقاء إلى مستوى النظرية .

2. ان النظرية الوظيفية هي نظرية جزئية وليست نظرية كلية في علم الاجتماع وهذا هو حالها فيما لو قارناها بالنظرية الماركسية التي تقدم نظرة شاملة للمجتمع .

3. بدء من العقود الأولى للقرن العشرين اخذت الوظيفية بالهيمنه على ساحة علم الاجتماع خاصة بعد أن نشطت المدرسة الانجلو سكسونية التي ضمت كلا من روبرت ميرتون وراد كليف براون وتالكوت بارسونز ومالينوفسكي في إنجاز أبحاث استندت إلى النظرية الوظيفية أو ما عرف بالبنائية الوظيفية .

هكذا علينا أن نقر انه من العبث فهم هذه المقاربة الجديدة قبل ان نرجعها إلى جذورها المعرفية الأولى، أي إلى المقاربة الوضعية التي انبثقت منها. كيف؟

لقد اوجد اوجست كونت قطيعة بين ما يسميه هو بقرون الميتافيزيقيا والقرن التاسع عشر أو ما يسميه بالقرن الوضعي العلمي. هذه القطيعة ترتب عليها بروز تصورات جديدة تتعلق بالنظام السياسي والنظام الاجتماعي والنظام المعرفي. كما أن كونت بشر بوراثة العلماء والفلاسفة والصناعيين لرجال العهد الميتافيزيقي البائد، أي انه بشر بنظام اجتماعي وسياسي سيرتكز على العلم والفلسفة والصناعة. وهكذا، فكلما تغيرت المعرفة بالاتجاه العلمي والوضعي كلما امكن التوصل إلى إقامة نظام سيلسي وضعي .

السؤال : ما هي قيمة التصور الوضعي للاجتماع والسياسة والمعرفة ؟

قيمة التصور الوضعي تنعكس على علاقة المعرفة بواقعها .أي ان المعرفة لم تعد نظرية مجردة بالقدر الذي ستصبح فيه تطبيقية. في هذا الاطار من التصور الوضعي سيكون دور المقاربة الوظيفية هو التعامل الواقعي مع الظواهر الاجتماعية. فهل حصل مثل هذا التعامل ؟

في واقع الأمر نعم. فقد بدأ هذا التعامل الواقعي مع الظواهر مع سان سيمون لما اعترف – مثلا - بمفهوم المواطنة وأعلى من شأنه على حساب مفهوم الكونت، ثم لما اعتبر الدين ظاهرة اجتماعية وجردها من كل مقدس. ولكن مع اوجست كونت كان التعامل الواقعي مع الظواهر ابلغ اثرا حيث جعل من ظاهرة الدولة ظاهرة نمطية فقسمها إلى ثلاثة أقسام / انماط تعبر عن ثلاث مراحل هي :

§ الدولة الثيولوجية تعبير عن المرحلة اللاهوتية .

§ الدولة الميتافيزيقية تعبير عن المرحلة الفلسفية \الميتافيزيقية – الطبيعية.

§ الدولة العلمية تعبير عن المرحلة الأخيرة / الصناعية أو الفكر الوضعي العلمي .

بعد هذه التجربة المعرفية في تنميط مراحل التطور البشري الفكري توصل كونت إلى تجاوز الفلسفة النظرية المجردة التي اخفقت لانها عجزت عن تحليل واقع الإنسان وشرع كونت في بناء شجرة المعرفة متوجا اياها بعلم الاجتماع الذي كان عليه ان يلعب دورا أساسيا في تحليل وافع الإنسان. وهكذا ستكون المقاربة الوظيفية ترجمة لكل التصورات التي حصلت داخل المقاربة الوضعية .

ثانيا : المرجعية العلمية للمقاربة الوظيفية

حين نبحث عن المحددات العلمية المرجعية للوظيفية سيكون امامنا اثنتيين من المرجعيات هما :

§ الأولى : هي العلوم الطبيعية

§ الثانية : هي العلوم البيولوجية

ستأخذ الوظيفية هاتين المرجعيتين بعض العناصر الأساسية :

العنصر الأول : هو القوانين

فالطبيعة تقوم على عدد من القوانين التي تتحكم بظواهرها فإذا ما حدثت تطورات جيولوجية معينة فمن الطبيعي ان يصاحبها أو يتولد عنها عددا من الظواهر الطبيعية. وثمة قوانين طبيعية تندثر بفعل عوامل طبيعية أخرى لذا نجد اوجست كونت يعرف الظواهر الاجتماعية تماما مثل تعريفه للظواهر الطبيعية ومثال ذلك تعريفه للدين كظاهرة اجتماعية تولد وتنمو وتكبر ثم تشيخ. أي تبدأ مرحلة التآكل والاندثار .

العنصر الثاني هو : الوظيفة الكامنة في التحليلات البيولوجية للمجتمع

إذ نلاحظ ان مفهوم الوظيفة هو مفهوم قديم في علم الاجتماع، فقد بدأ التفكير فبه مع هربرت سبنسر ثم تواصل مع اوجست كونت وتطور مع اميل دوركايم ومارسيل موس وايضا مع سان سيمون. كل هؤلاء هم ممثلي المدرسة الوظيفية الفرنسية.

لا شك أن هاتين المرجعيتين ( الطبيعية والبايولوجية ) أرستا مبدأين أساسيين انطلقت منهما المقاربة الوظيفية هما :

الأول : ان المجتمع مثل الجسم البشري كلية متكاملة .

الثاني : ان كل عضو من أعضاء هذا الجسم لا يمكن فهمه الا في اطار كلية .

السؤال : ما هي النتيجة التي يمكن أن نستلخصها بداية من هذين المبدأين ؟

الجواب : إن العضو جزء من كل، والعلاقة الرابطة بينهما هي حصرا علاقة تكاملية .

والنتيجة القابلة للاستخلاص تبين أنه ثمة تكامل بين الوظيفة والكلية.

ثالثا : المجتمع من منظور وظيفي

عدل

في إطار هذا التكامل نستطيع القول أن المجتمع يتحدد من خلال وظيفته أو وظائفه. بمعنى أن الوظيفة تتحدد داخل المجتمع، لذا نجد أنثروبولوجي بحجم راد كليف براون يشير في كتابه " الوظيفة العامة " إلى هذه الأخيرة بأنها تلك التي تشمل بقية الوظائف الأخرى ولكن هذه بلا ريب نظرة حتمية. وفي هذا السياق ينبغي الاشارة إلى أن مفهوم الوظيفة حين انبثق في القرن 19 اتخذ طابع الحتمية متأثراً بأطروحات المدرسة الاجتماعية البيولوجية التي ترى أنه طالما أن كل جسم بشري يتمتع بعدد من الوظائف الثابتة والحتمية الثابتة فالمجتمع أيضاً يتمتع بعدد من الوظائف الثابتة.

مثل هذا الطرح نجده لدى هربرت سبنسر وخاصة لدى أوجست كونت، وفيما بعد سنجد هذا المنطق الحتمي الذي يرى أن مبدأ الوظيفة العامة يتحكم في بقية الوظائف الأخرى شائعا عند رواد المدرسة الانجلو سكسونية في علم الاجتماع امثال مالينوفسكي وراد كليف براون وتالكوت بارسونز .

هكذا كان لابد من العودة إلى دوركايم لإخراج المفهوم من إطار الحتمية إلى إطار النسبية، فالحتمية والإطلاقية ليست ولا يمكن أن تكون من سمات الوضعية التي تنظر إلى الظواهر نظرة نسبية. لهذا يشار إلى المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع بجهود دوركيم التي نحت بالوضعية التقليدية نحو ما عرف بـ الوظعية الصحيحة.

رابعاً : مفهوم الوظيفة لدى دوركايم

عدل

يميل دوركايم إلى جعل مفهوم الوظيفة مفهوما نسبيا خاليا من الحتمية. فإذا لم يكن من الضروري اعتبار كل وظيفة تعبير عن حاجة الجسم فليس من الضروري أيضا أن تكون لكل حاجة وظيفة في الجسم. فما هي أسباب هذه النسبية الوظيفية لدى دوركايم ؟

ثمة ثلاثة أسباب تفسر النسبي عند دوركايم :

1. يريد دوركايم ان يحتكر تأسيس العلم الجديد. لذا لن يكون بإمكانه تبني نفس التعريفات التي نجدها عند كلا من كونت وسيمون وسبنسر. ولايجب أن ننسى أيضا أن دوركايم يعتبر الكونتية ( أ. كونت ) ضربا من ضروب الفلسفة المجردة في حين انه يدعي لنفسه تأسيس العلم الجديد .

2. رغب دوركايم ان يتميز في اطروحاته عن كونت مبينا ان علم الاجتماع لا يقوم على مبدأ الحتمية ولايستند إليها .

3. اراد دوركايم ان يتخلص من هذه المرجعيات غير الاجتماعية وان تكون للظاهرة الاجتماعية مرجعيتها المحضة وليست المرجعية البيولوجية أو الطبيعية.

في المقابــــل :

4. بدا المجتمع عند كونت وسبنسر على أنه كلية اجتماعية، وعليه فان الحياة الاجتماعية والحياة العضوية ستكونان خاضعتين لنفس القانون، قانون التطور .

مثال :

فالمؤسسات مثلا تملك نفس الأهداف والوظائف التي تمثل أعضاء الإنسان وهو ما يرفضه دوركايم كون سبنسر يختزل النشاط الإنساني في الوظيفة التي تقوم بها كل ظاهرة اجتماعية والتي يتم ارجاعها إلى حاجيات الجسم الإنساني .

أية استنتاجات ؟

ان الاستنتاجات الرئيسية التي يمكن الخروج بها :

§ أن الوظيفية كانت قبل دوركايم تعرف على أنها حالة من التطابق ما بين الجسم وحاجاته، فكلما عبر الجسم عن حاجة ما الا واستشعر الحاجة إلى وظيفة ما.

§ ان المقاربة الوظيفية انطلقت من هذا التطابق الكلي مابين الوظيفة والحاجة. لماذا ؟ لان علوم البيولوجيا كانت تشكل نوعا من مرجعيات علم الاجتماع لدى دوركايم وكونت وسيمون ... الخ.

§ اراد دوركايم ان يقصي العلوم البيولوجية والطبيعية من أي تاثير في علم الاجتماع، وحرص على استقلاله والحد من تدخل علوم البيولوجيا فيه، لذا ستتخذ الوظيفية عند دوركايم منحىً آخر غير التطابق وهو المنحى المعرفي .

§ يعتبر دوركايم ان الممارسة السوسيولوجية لا ينبغي ان تعتمد على الحتمية لذا يؤكد على نسبية الوظيفة " فليس الشعور بالحاجة يستوجب الوظيفة " .

§ من جهة أخرى هناك اعتبارين لدى دوركايم يقفان خلف تنسيبه للظاهرة الاجتماعية :

الاعتبار الأول : هو صعوبة اعتماد التحليل الحتمي في علم الاجتماع. فالظاهرة الاجتماعية نسبية بحكم ظروف نسبية إنتاجها وظروف التحكم فيها .

الاعتبار الثاني : هو ان الظواهر المعتلة والشاذة هي أيضا لها وظائف ولايمكن القول بانها ظواهر غير طبيعية. وهذا يعني ان علم الاجتماع لا يبحث في علة الظواهر بقدر ما يبحث عن الوظيفة التي يمكن أن تؤديها ( في العلاقات والادوار ) .

خامسا : قضايا الوظيفية وتصوراتها

عدل

للوظيفية قضايا كبرى تشكل منطلقات لها في أي تحليل سوسيولوجي .إذ يمكن الحديث عن بعض المفاهيم التي ينبغي التعرف عليها بالنسبة للوظيفية كرؤية سوسيولوجية. فما هي أبرز هذه القضايا أو المفاهيم ؟

أولا : تصورها للمجتمع

والسؤال هو: كيف تنظر الوظيفية إلى المجتمع ؟ وكيف تتصوره ؟

  • المجتمع عند الوظيفية هو:

§ نسق من الافعال والبنى المحددة والمنظمة. هذا النسق المجتمعي يتألف من متغيرات مترابطة بنائيا ( بنى ) ومتساندة وظيفيا ( وظائف ) .

§ وذو طبيعة متسامية ومتعالية تتجاوز وتعلو كل مكوناته بما فيها ارادة الإنسان .

§ هذا التجاوز أو التعالي الذي تتحدد شروطه من خلال الضبط والتنظيم الاجتماعيين اللذين يُلزمان الاشحاص بالانصياع لهذه الطبيعة المتسامية والالتزام بها. إذ ان أي انحراف عنها يهدد أسس بناء المجتمع التي تعد المحافظة عليه وصيانته وتدعيم استمراريته غاية بحد ذاتها .

  • شروحـات:

ان عبارة التصور الاجتماعي ذو الطبيعة المتعالية هي عبارة ذات جذور دوركايمية توازي مقولة دوركايم الممثلة بـ ( الضمير الجمعي ) ؛ فللمجتمع ضمير يسمو ويتعالى على ضمائر الافراد مجتمعين أو منفردين .

وحسب الوظيفية فالمجتمع مجموعة لا متناهية من البنى وكل منها يقوم بوظيفة فإذا تساءلنا مثلا : لماذا بنية المجتمع الأسرية صغيرة ؟ نجيب بأن المجتمع يحتاج إلى مثل هذا النوع من الأسر كونها تلبي حاجات ووظائف اجتماعية. ان الضبط الاجتماعي هو أية وسيلة يستعملها المجتمع للتحكم بسلوك الافراد سواء عن طريق اللغة، الاعراف، التقاليد …الخ فهذه العملية تمثل رقيب اجتماعي. فالافراد الذين يتكلمون لغة معينة أو يختصون بعادات وتقاليد واعراف وتصورات معينة يصبحوا تلقائيا مقبولين في المجتمع ومعبرين عنه وعن احتياجاته ووظائفه وضميره الجمعي .

ان التنظيم الاجتماعي هو نتيجة للضبط الاجتماعي. وهاتان الآليتان ( التنظيم والضبط ) هما المسؤولتان عن الزام الافراد والجماعات بالانصياع لهما والالتزام بهما. واي انحراف عنهما سيهدد الأسس الاجتماعية. ولا شك أن الوظيفية تمتاز بحساسية كبيرة تجاه عوامل التغير في المجتمع. فالتغير الاجتماعي ليس غاية انما هو تهديد في حين ان الوظيفية تستهدف المحافظة على المجتمع وتحقيق الاندماج الاجتماعي .

ثانيا : مسالة التوازن الاجتماعي

عدل

توصف الوظيفية في بعض الأحيان بانها :

§ اتجاهات للتوازن. أي انها ترى التوازن واقعا وهدفا يسعى المجتمع إلى أداء وظائفه وبقائه واستمراره .

§ إذا كانت الوظيفية عبارة عن اتجاهات للتوازن فان هذا التوازن يتحقق بعمليات التناسق بين مكونات البناء الاجتماعي والتكامل بين وظائفه الأساسية .

§ هذا التوازن يعمل على تحقيقه شريط مفاهيمي تشترك فيه القيم والمعايير الثقافية والافكار التي يرسمها المجتمع لافراده وجماعاته الذين لايملكون حق الخروج عليها والا وقعوا تحت وطأة جزاءات الضبط الاجتماعي الرسمي وبالتالي تصنيفهم في عداد المنحرفين الخارجين عن مسيرة المجتمع .

سؤال : إذا ما تحدثنا عن بارسونز، فما هي الآلية التي تحافظ على حالة التوازن في المجتمع ؟

الإجابة : نجدها لدى الكثيرين من الوظيفيين. والمسألة تتصل بالنسق الثقافي الذي يشتمل على القيم والافكار والمعايير والاساطير كما يسميها بيير برديو أو بالرموز. لذا يؤكد بارسونز على أهمية التوازن الثقافي لتحقيق التوازن الاجتماعي والا فان اختلال النسق الثقافي سيؤدي إلى فقد المجتمع لتوازنه وذلك يعني انهيار المجتمع .

البنيويـــة الوظيفيــــة

عدل

أولا : مكانة البنيوية الوظيفية في علم الاجتماع نالت هذه النظرية النصيب الاوفر من الكتابات التي تصدت لموضوع النظرية الاجتماعية. وحتى اواخر الستينات من القرن العشرين ظلت هي النظرية المهيمنة على ساحات علم الاجتماع بل انها أكثر النظريات انتشارا وهيمنة.

ومع انها شهدت تراجعا ملحوظا عن مكانتها منذ السبعينات من القرن العشرين بسبب ظهور نظريات أخرى كعلم الاجتماع الديناميكي وعلم اجتماع التنظيمات والفردوية المنهجية والبنيوية التكوينية إلا ان هذا التراجع لا يبرر عدم التوقف عندها ومحاولة فهمها لاسيما إزاء المدة الطويلة التي هيمنت فيها على الساحة الاجتماعية .

أيضا وقبل الدخول في ماهية النظرية ينبغي الاعتراف بان البنيوية الوظيفية هي نظرية كبيرة وليست نظرية صغيرة، فهي تنطلق من المجتمع ولا تعطي أهمية للفرد، ولكونها نظرية مجتمعية فهي غير مستوحاة من الفرد .

في اواخر أيامها تعرضت النظرية لموجة من النقد. فقد قام عالم الاجتماع الأمريكي " الفن غولندر " سنة 1970 بتحليل نقدي لعلم الاجتماع الغربي من خلال نقده للبنيوية الوظيفية ذاتها. وثمة من نعتها بانها الطغيان الامبريالي. أما عالم الاجتماع الأمريكي ( ويلبرت مور 1978 ) الذي ارتبط اسمه كثيرا بالنظرية الوظيفية فقد مثَّل شاهد من اهله حين اعترف بان استعمال البنيوية الوظيفية أصبح محرجا في علم الاجتماع المعاصر ( النظري ) .

ثانيا : ما هي البنيوية الوظيفية ؟

أحيانا نكتفي باستعمال اللفظ " الوظيفية " للدلالة على النظرية. ولكن من اين اتت التسمية بـ" البنيوية الوظيفية " ؟

لقد أسمى دوركايم المجتمع بالحقائق الاجتماعية. وعندما ننظر إلى المجتمع بهذا المحتوى فاننا ننظر إلى البنى الاجتماعية بما فيها المؤسسات والبنى الطبقية والنوع الديمغرافي للسكان باعتبار المجتمع مدني. فلو نظرنا إلى البنية الاسرية [ اب، ام، اخ ،...الخ ] كإحدى بنى المجتمع المدني وتساءلنا : ماهي وظيفة هذه البنية بالنسبة لاستقرار المجتمع ؟ سنلاحظ اننا بصدد مواجهه عبارة " البنيوية الوظيفية " التي تفسر لنا الوظائف التي تؤديها البنى في المجتمع .

  • إذن البنيوية الوظيفية هي :

[ رؤية سوسيولوجية ترمي إلى تحليل ودراسة بنى المجتمع من ناحية والوظائف التي تقوم بها هذه البنى من ناحية أخرى ] .

هذا يعني ان البنى لم توجد بطريقة عشوائية لان لها وظائف سوف تقوم بتحقيقها. وبهذا المعنى فان للبنى الاجتماعية حتمية لامفر منها وهي وجود وظائف لها. هكذا فلكل بنية اجتماعية وظيفة تؤديها، وبما أن كل شئ محكم فسوف تسير الأمور على ما يرام في المجتمع دون انتظار طويل للصراعات والثورات، فالمجتمع عبارة عن سيمفونية من الوظائف تتسم بالتناسق والتوازن .

ثالثا : أشكال البنيوية الوظيفية

عدل

صحيح ان البنيوية الوظيفية تهتم بدراسة البنى ووظائفها بيد انها ليست نظرية سوسيولوجية ذات لون واحد بل يمكن الوقوف على ثلاثة اشكال لها :

1. الوظيفية الفردية

في هذا الشكل من النظرية فقد وقع التركيز على حاجات الفاعلين الاجتماعين والبنى الاجتماعية التي تظهر لتلبية هذه الحاجات .

مثال :

الأسرة النووية التي تتكون عادة من أبوين وبضعة أولاد ظهرت لتلبي بعض الحاجات الفردية كالتمتع بالحرية والعيش بالاستقلالية والعمل والتربية الخاصة في مقابل ذلك لم تعد الأسرة الممتدة المكونة من الابوين والأبناء والازواج والزوجات وأبناءهم ؛ لم تعد قادرة على تلبية الحاجات الفردية .

2. الوظيفية العلاقاتية

في هذا الشكل يقع التركيز على آليات العلاقات الاجتماعية التي تساعد في التغلب على التوترات التي قد تمر بها العلاقات الاجتماعية. هذا النوع نجده موضوع اهتمام لدى الانثربولوجين امثال راد كلييف براون ومالينوفسكي. فالوظيفية العلاقاتية تعمل، مثلا، عبر شعيرة طقسية من الشعائر، على التخفيف من التوترات في اطار العلاج النفسي .

3. الوظيفية الاجتماعية

هنا يقع التركيز على البنى والمؤسسات الاجتماعية الكبرى وعلى علاقاتها ببعضها البعض وتاثيراتها الموجهة لسلوكات الافراد والمجتمعات كالوظيفية التي تقوم بها مؤسسات كالجامعة أو المستشفى أو الإذاعة أو التلفزيون أو الأسرة أو المسجد أو المدرسة... فالمسألة تتعلق بالمجتمع لا بالافراد .

رابعا : الأصول الانثروبولوجية والبايولوجية للنظرية

ظهر مصطلح الوظيفية في الثلاثينات من القرن العشرين عند علماء الانثربولوجيا على الخصوص أمثال راد كليف براون وبرونسلوي مالينوفسكي. وفي الأربعينات درَّس هذان العالمان في جامعة شيكاغو مما أدى إلى انتشار مصطلح الانثربولوجيا الوظيفية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفيما بعد مثلت اعمال كل من تالكوت بارسونز وروبرت ميرتون البنيوية الوظيفية في أعمق ما كتب حول النظرية التي تنظر إلى المجتمع باعتباره نظاما نسقيا يتمتع بالكثير من الانسجام بين مكوناته البنيوية. أما النظرية البايولوجية فتعد أحد مرجعيات الوظيفية، ومنها يمكن القول انه إذا كانت العناصر المكونة للجسم الإنساني تكون وحدة بيولوجية متكاملة، أي سيفونية متكاملة تتسم بالانسجام، إلا أن الوظيفيين وكما هو الحال في النظرية الاجتماعية البيولوجية في ملاحظاتها لفروق بين الجسم البشري والمجتمع لا يتجاهلون أيضا عنصر الصراعات في المجتمعات لكنهم ينظرون إليها بوصفها توترات بريئة. أي انها عبارة عن تمهيدات إلى إقامة نظام اجتماعي أفضل. فهي في منظورهم ايجابية وليست هدامة للمجتمع .

خامسا : الأصول السوسيولوجية للنظرية

ان البنيوية الوظيفية كنظرية سوسيولوجية تعتبر المجتمع مجموعة من التنظيمات المتراتبة التي يساهم كل منها في الاستقرار الاجتماعي للمجتمع هذا يعني أن الوظيفية تركز أكثر ما يكون التركيز على التوازن الاجتماعي للمجتمع وليس على التغير الاجتماعي. فالعناصر المكونة للمجتمع تُدْرَس من حيث الوظيفة الخاصة والمحددة التي تقدمها للحفاظ على ترابط النسق الاجتماعي لهذا المجتمع أو ذاك. أما النسق الاجتماعي فهو عبارة عن مجموعة من العناصر المترابطة بعضها ببعض، وأي خلل في أحدها لابد وان يؤثر في باقي العناصر. وبدورهم يقول الوظيفيون ان النسق الاجتماعي يمكن أن يحافظ على الاستقرار طاما ان كل عنصر يقوم بوظيفة .

أخيرا يمكن القول ان كونت ودوركايم وسبنسر كانوا أهم ثلاثة رواداجتماعيين اثروا تاثيرا كبيرا على النظرية البنيوية الوظيفية .

1. اوجست كونت

نظر كونت إلى المجتمع باعتباره وحدة تتمتع بالكثير من الاستقرار، وعلى الرغم من انه عارض الثورات والانقلابات والانتفاضات الا انه لم يبد قلقا على مصير المجتمع بما أن الاستقرار يغلب عليه. بل ان كونت كان مؤمنا بان المجتمع يتصف بالتوازن وليس بالصراعات. لذا رأى في الانساق الاجتماعية وكأنها أنساق عضوية أو بيولوجية .

2. الوظيفية عند سبنسر

رأى سبنسر أن المجتمع في انساق يتشابه مع كثير من الانساق البيولوجية بل انه أكثر الرواد الذين شبهوا المجتمع بالانساق البيولوجية، فالكائنات العضوية والانساق الاجتماعية في المجتمع هي كائنات متشابهه من حيث قدرتها على النمو والتطور. ان ازدياد حجم الانساق الاجتماعية كازدياد الكثافة السكانية – مثلا - سيؤدي إلى ازدياد انقسام المجتمع إلى انساق أكثر تعقيدا وتمايزا وهذا هو حال الأعضاء البيولوجية أو الكائن الحي. وقد لاحظ سبنسر ان التمايز التدريجي للبنى في كل الانساق الاجتماعية والبيولوجية يقترن بتمايز تدريجي في الوظيفة. ولعل أهم ما جاء به سبنسر هو استعماله لمصطلحي " البنية والوظيفة "هاتين الكلمتين بلورهما سبنسر أكثر من كونت .

أخيرا فان قانون التطور الاجتماعي الذي جاء به سبنسر قد اثر في نظريات التطور عند علماء الاجتماع الوظيفيين الذين جاؤوا بعده وفي طليعتهم تالكوت بارسونز ودوركايم .

3. الوظيفية عند اميل دوركايم

لاميل دوركايم دور موثر في تأسيس النظرية الوظيفية. ومبدئيا فان تاثيرات كونت وسبنسر في الوظيفية تجد امتدادتها عند دوركايم في الكثير من ابحاثه سواء المتعلق منها بـ" تقسيم العمل الاجتماعي " أو " الاشكال الأولية للحياة الدينية ". أما فعليا فثمة معالجة لمفهوم الوظيفة وعلاقتها بالبنى الاجتماعية كالدين والعمل والثقافة والفرق بين السبب الاجتماعي والوظيفة الاجتماعية ...الخ

بعض اسهامات دوركايم في تأسيس البنيوية الوظيفية

عدل

اولا :

ان اهتمام دوركايم بالوقائع الاجتماعية جعله يهتم ايضا بالاجزاء المكونه للنسق الاجتماعي من جهة وعلاقات الاجزاء ببعضها البعض ومن ثم تأثيرها على المجتمع. ففي حديثه عن الوقائع الاجتماعية وجد نفسه مضطرا لإعطاها اهمية كونها تندرج في اطار في بنى ومؤسسات سعى دوركايم إلى البحث عنها .

ثانيا :

اعتنى دوركايم كثيرا بالبنى والوظائف وعلاقاتها بحاجيات المجتمع. وهذا يعني اهتمامه بالبنية والوظيفة كعنصرين هامين في التحليل السوسيولوجي .

ثالثا :

من أهم الامور التي قام بها دوركايم تمييزه بين مفهومين هما " السبب الاجتماعي " و" الوظيفة الاجتماعية ".

اذ ان دراسة " السبب الاجتماعي " سيعني الاهتمام بمبرارات وجود البنية. أما دراسة " الوظيفة الاجتماعية " فستعني الاهتمام بحاجيات المجتمع الكبيرة وكيفية تلبيتها من طرف بنية معينة .

مثال :

اذا درسنا سبب ظهور الاسرة النووية فسنفكر ما إذا كان التصنيع وانتقال الناس من حال إلى حال هو السبب في ذلك، كما سنتساءل عن وظيفة الاسرة النووية كبنية جديدة في المجتمع الصناعي .

رابعا :

رفض دوركايم رفضا قاطعا فكرة اسطورية الدين، واكد في المقابل على انه ظاهرة عالمية وبالتالي لابد وان تكون له وظيفة في المجتمعات البشرية. فمن بين وظائف الدين عند دوركايم وابن خلدون العمل على توحيد الناس وخلق روح التضامن الاجتماعي بينهم عن طريق القيم الثقافية والاعتقادات الدينية التي يدعو اليها هذا الدين أو ذاك .

مثال : وظيفة الشعائر الدينية

يقدم دوركايم في كتابه " الاشكال الأولية للحياة الدينية " نموذجا للمعنى الاجتماعي للشعائر الدينية أو الحفلات المراسمية. ففي نظره تحقق الشعلئر الدينية التماسك الاجتماعي من خلال أدائها لاربع وظائف :

§ مراسم الحفل، وهذه تهيئ الفرد للحياة الاجتماعية من خلال فرض الطاعة عليه .

§ إن وظيفة الشعائر الدينية تتمثل في كونها تقوي من تماسك المجتمع وترابط العلاقات بين الافراد والمجموعات .

§ تجدد الشعائر الدينية لدى ممارستها التزام الفرد لتقاليد المجتمع .

§ يشعر الفرد بالراحة والحماس الاجتماعي أثناء مشاركته بالحفل الديني.

عبر هذه الحالات الاربع فإن الشعائر الدينية تساهم بتلبية الحاجات الدينية للفرد، ومن ثم يتضح من التفكير السوسيولوجي الدوركايمي ان كل وحدة اجتماعية في المجتمع لها علاقة بالمجتمع الكبير وفي كل الوحدات الموجودة فيه ويعتقد دوركايم ان الانسجام في المجتمع يصبح واقعا مجسما عندما تسود هذه الحالة الطبيعية. أي عند قيام هذه الوحدات الاربع بوظائفها في المجتمع ككل .

خــامسـا : مفهوم الوظيفة عند دوركايم

يعرفها كما يلي :

" تتمثل وظيفة العناصر الاجتماعية في مساهمتها في الحفاظ على مجرى الحياة في المجتمع " .

فالثقافة هي التي تمثل جانبا من العناصر الاجتماعية فتشمل اللغة، العادات، والتقاليد، والعقائد الدينية، القيم الثقافية، وكل هذه العناصر تمثل مؤسسات اجتماعية لها وظيفتها ولايمكن الاستغناء عنها لاهميتها في مجرى الحياة الاجتماعية ولكونها تشكل العناصر البنيوية في المجتمع .

ومن ملامح الوظيفية النظرية انها تنظر إلى المجتمع كنسق اجتماعي أي وحدات اجتماعية مختلفة نسبيا تساهم في وظائف مختلفة لدفع المجتمع وتقدمه. وحسب دوركايم فـ" ان الانسجام من ملامح الرؤية الوظيفية " لا بل انها تنظر إلى المجتمع على اساس انه مستقر وليس هناك ما يعكر صفوه من صراعات ونزاعات بما ان اجزاءه تتكامل في القصد والهدف .

الوظيفية والصراع الاجتماعي عند دوركايم

عدل

من خلال كتاب :

" تقسيم العمل الاجتماعي "

يعتبر الكتاب أهم النصوص المنهجية في علم الاجتماع والتي حللت التصورات الطارئة خلال القرنيين 18 و19 م، لذا خصص دوركايم الكتاب ليوضح رايه في امكانيات تطبيق المقاربة الوظيفية انطلاقا من مبدأ دوركيمي يعتبر الوظيفية مبدأ نسبيا منهجيا .

اذن الوظيفية لدى دوركايم هي تطبيق نسبي .هذا ما يتوصل اليه انطلاقا من تجربة المجتمعات الأوروبية عامة وفرنسا خاصة حيث لا يتجاهل دوركايم وصف كونت الذي كان يعتبر القرن الـ18 تكريسا للقطيعة مع الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي. أي قطيعة مع كل فكر إطلاقي حتمي .

يعتبر دوركايم الظاهرة نسبية بحكم ظروف نسبية انتاجها وظروف التحكم بها وفي نفس الوقت يرى ان الظواهر المعتلة والشاذة هي ايضا لها وظائف وليس صححيحا انها ظواهر غير طبيعية. فظاهرة الاختلال في عمل المؤسسات أو في التجارة هي ظواهر معتلة وشاذة ولكنها ايضا طبيعية أما حالات الانخرام الكامل كانخرام النظام الاجتماعي فهذه – مثلا - حالة غير طبيعية لانها تعبر عن صراع مدمر وهوما يرفضه دوركايم الذي يعتبر فكرة الصراع المدمر هي حالة غير طبيعية بامتياز. ولكن لماذا هذه النظرة الرافضة لفكرة الصراع ؟

لـ دوركايم تبريرا علميا، ذلك ان مفهوم الوظيفية عنده يتضمن اصلا بعدا اخلاقيا واضحا، ومن المهام العلمية التي يطرحها على نفسه هي تاسيس علم الاخلاق. فهذه الاخلاق هي اخلاق اجتماعية مدنية. كما أن دوركايم يربط بين الوظيفية وشيئ اخر هو " التجانس " وهو مفهوم مركزي لدى دوركايم. لذا نراه يصر على نسبية الظاهرة وعدم اطلاقيتها كون التحليل الاجتماعي لا يبحث في علة الظواهر بل في وظيفتها. وهذه الوظيفة ذات بعد متجانس. كيف ؟

في كتابه " التربية الاخلاقية "، المنشورات الاجتماعية بفرنسا 1966 " يعرف دوركايم المجتمع كما يلي :

1.المجتمع لايمكن أن يستمر الا إذا وجدت درجة كافية من التجانس والتربية ترسخ وتدعم هذا التجانس .

2. أما وظيفة المجتمع فهي تحقيق التجانس، وادوات التجانس هي التربية .

وفي نفس الكتاب نجد نفس الفكرة تقريبا : " ان المجتمع هو قبل كل شئ ضمير، وهو ضمير المجموعة الذي يجب ايصاله إلى الطفل " .

يبدو من خلال هذين التعريفين أن الوظيفة التي يشير إليها دوركايم هي وظيفة اجتماعية بحتة تحقق تجانس المجتمع، وبما أن دوركايم يشتغل في حقل اجتماعي متكون " ناجز " فمن الطبيعي ان يُنَسِّب الوظيفة الاجتماعية بخلاف مالينوفسكي وراد كليف براون اللذان دافعا عن حتمية الوظيفية. فكيف نفسر هذا الاختلاف ؟

الوظيفية في علم الاجتماع الأمريكي

عدل

ان ظهور المدرسة الوظيفية عند بعض رواد علماء الاجتماع الغربيين ما لبث ان انتقل إلى العالم الجديد وباتحديد إلى المجتمع الأمريكي حيث عرفت الوظيفية أوج نموها بين العديد من علماء الاجتماع الأمريكي فيما بين الخمسينات 1956م والسبعينات 1975م من القرن العشرين، إذ أصبحت المدرسة السوسيولوجية تتمتع بسلطة لا تضاهى في هذه الفترة بالذات. أي انها كانت سيدة الموقف كنظرية سوسيولوجية معاصرة والأكثر انتشارا.

أولا : الوظيفية عند تالكوت بارسونز

عدل

يعد بارسونز أشهر عالم اجتماعي وظيفي في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي على العموم. وعلى امتداد أكثر من نصف قرن من الكتابة والبحث استطاع بارسونز طبع علم الاجتماع بتحليلاته الوظيفية، وهو مثل ألن تورين وبيير بورديو وجاك بيرك وآرون تتميز كتاباته بالاسلوب الصعب في حين ان كتابات روبرت ميرتون هي الأسهل في علم الاجتماع .

ان أكبر مساهمة جاء بها بارسونز في علم الاجتماع هي تركيزه في التحليل السوسيولوجي على المجتمع ككل. ويرى بارسونز ان هذا التركيز يساعد عالم الاجتماع على تحاشي الاهتمام بدراسة مواضيع معزولة مثل جنوح الاحداث أو المشاكل العائلية. ويعتقد أنه يجب دراسة تلك القضايا في اطار عمل النسق الاجتماعي ككل .

هذا الوظيفي العملاق يلاحظ ان الرؤية الوظيفية تبدأ من الكلي وتتجه نحو الاحداث. فعندما نرى جزئية في المجتمع فاننا سنحاول تفسيرها وليس العكس بان نفسر المجتمع من خلال جزيئاته. وفي توجهاته النظرية يتشابه بارسونز مع كارل ماركس في هذه النقطة بالذات أي ان كلا منهما يركز تحليله على المجتمع ككل وهذا واضح في كتابات كارل ماركس الذي انطلق من المجتمع في طبيعته، من الناس ومن المجتمع ككل. لذا نرى بارسونز أيضا يتبنى منهج كارل ماركس الذي انطلق من الكل لتحليل الجزئيات .

ان علماء الاجتماع الوظيفيين الذين ساروا على خطى بارسونز جعلوا من الاستقرار الاجتماعي الهدف النهائي للتحليل السوسيولوجي. وهذا يعني انهم يركزون في المقام الأول على الظروف التي تؤدي إلى علاقات اجتماعية متلاصقة وإلى الادماج السهل للعديد من الأجزاء المفصولة في المجتمع وترتيبها في وحدة مترابطة .

فتحليل بارسونز يفيد بان تركيبة المجتمع الأمريكي تتكون من [ فئات بيضاء وسوداء وآسيوية وامريكية لاتينية ] ومداخيل مختلفة [ اغنياء، وفقراء، متوسطو الدخل ومتدينون ] وفئات عمرية مختلفة [ كهول، شيوخ، أطفال ...الخ ]. ويتساءل بارسونز : كيف تسطيع هذه الفئات المتباينة ان تتضامن مع بعضها بطريقة متناسقة نسبيا دون أن يذهب كل في طريقة بحيث تكون النتيجة الصراع الخطير ؟

هذا التساؤل يطرح في واقع الأمر قضية " التآلف " عند دوركايم أو ما يعرف بالتضامن الآلي في المجتمعات البدائية والتضامن العضوي في المجتمعات الحديثة. هذا هو ما يشدد عليه بارسونز الذي يعتقد أن التحليل الوظيفي يؤكد انه رغم التباينات والاختلافات والفروقات فان المجتمع يؤمن لنفسه الاستقرار وبالتالي ينبغي الا نتخوف من تنوع التركيبة المجتمعية، فثمة نوع من الادماج الذي يتكون من أجزاء تترابط بفعل عوامل اللغة مثلا. فاللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية وكل شخص يحضر إلى الولايات المتحدة عليه واجب تعلم اللغة الإنجليزية .

لقد عالج بارسونز بعض المؤسسات المحددة كالاسرة والاقتصاد والدين والحكومة ليبين كيف يساهم كل منها في الاستقرار الاجتماعي، ولو اخذنا الأسرة كنموذج لدراساته ووظيفتها في الاستقرار الاجتماعي فسنرى كيف يبين لنا بارسونز ان للاسرة النووية الأمريكية وظيفتين هما :

1. التنشئة الاجتماعية للاجيال الجديدة، فلكي يقع دمج هذه الاجيال بالمجتمع الكبير ينبغي عليها ان تتعلم القيم الاجتماعية والثقافية والانشطة والمهارات الاجتماعية لمجتمعها .

2. تعمل الأسرة النووية بنظر بارسونز على تمكين شخصية الكهول من الاستقرار. فالعمل والعلاقات الخارجية عن الأسرة في المجتمع يمكن أن تكون صعبة ومصدرا للضغوطات على الافراد والكهول ومن ثم يعتقد بارسونز ان وظيفة الأسرة الحديثة تتمثل في التقليل من درجة التوتر الناتج عن المحيط الخارجي للاسرة وهكذا تحافظ الأسرة النووية على توازن واستقرار شخصية الكهول وهو ما لم تعد توفره الأسرة الممتدة في المجتمع الصناعي .

ثانيا : الوظيفية عند روبرت ميرتون [ = الوظيفية الامبريقية المتوسطة ] و" الوظيفيون الجدد "

يعد مقال روبرت ميرتون " Toward the codification of Functional analyes in Sociology " أهم نقد وجه للبنيوية الوظيفية في علم الاجتماع. فما هو محتوى المقال ؟

نقد ميرتون :

ينتقد ميرتون ثلاث مسلمات يتصف بها التحليل الوظيفي :

1. الوحدة الوظيفية للمجتمع

ترى هذه المسلمة ان كل العقائد والممارسات الثقافية والاجتماعية تؤدي وظيفة واحدة لكل من الافراد والمجتمع. كما تعتقد أن أجزاء النسق الاجتماعي تتمتع بدرجة عالية من التكامل. وفي هذه النقطة بالذات يشير ميرتون إلى صحتها ولكن بالنسبة للمجتمعات البدائية الصغيرة وليس بالنسبة للمجتمعات الكبيرة المعقدة. لذا ينبغي عدم تعميم هذه المسلمات .

2. الوظيفية الشاملة

تعني هذه المسلمة ان كل الاشكال والبنى الثقافية والاجتماعية في المجتمع تقوم بوظائف ايجابية ويرى ميرتون ان هذا قد يكون مخالفا لواقع الحياة إذ ليس بالضرورة ان تكون كل بنية أو تقليد اوعقيدة تتصف بوظائف ايجابية. ومن واقع المجتمعات العربية فإن فكرة الوحدة العربية على سبيل المثال ربما لا تصمد في بعض الأحايين امام الفكرة الوطنية التي تسعى إلى ابراز الهوية القطرية على حساب الهوية القومية كما أن الفكرة قد تثير تحفظات بين العرب لا سيما لمن يحاولون احياء التراث القديم كالفرعونية والامازيغية وكذلك الأمر ينطبق على فكرة الوحدة الإسلامية حيث يبدو الدين يلعب دورا وظيفيا متفاوتا بين الشعوب العربية والإسلامية .

3. ضرورة وجود الأجزاء

ترى هذه المسلمة ان الأجزاء المكونة للمجتمع لا تقوم بوظائف ايجابية فحسب بل هي تمثل عناصر ضرورية لعمل المجتمع ككل. وهذا يعني ان البنى الاجتماعية والوظائف ضرورية بالنسبة لمسيرة المجتمع الطبيعية أي انه ليس هناك بنى ووظائف أخرى قادرة على القيام بمسيرة المجتمع كالوظائف القائمة الآن. وحسب ميرتون المتأثر بأستاذه بارسونز لابد من الاعتراف بوجود عدة بنى ووظائف داخل نفس المجتمع .

مشروعية النقد

عدل

يتلخص بطموح :[ نحو نظرية امبريقية متوسطة أكثر شمولية واقدر على تفسير الاحداث من الوظيفية التقليدية التي يعتبرها ميرتون جزئية وسطحية وغير قادرة على التفسير]

يرى ميرتون ان المسلمات الثلاثة السابقة لاتستند إلى معطيات امبريقية بقدر ما هي مجرد أفكار وانساق نظرية بحتة في حين ان واجب عالم الاجتماع فحص مدى مصداقية كل منها امبريقيا. لماذا ؟ لان الاختبار الامبريقي وليس المقالات النظرية هو الذي يمكن التحليل الوظيفي من التوصل إلى ارساء منظور أو باراديقم أو شكل تحليل يكون بمثابة مرجع لتكامل النظرية مع البحث الامبريقي .

لذا يرى ميرتون ان التحليل الوظيفي ينبغي ان يدرس ظواهر محدودة مثل الادوار الاجتماعية، الانماط المؤسسية، العمليات الاجتماعية ،ا لانماط الثقافية، البنية الاجتماعية وادوات الضبط الاجتماعي. ومن الواضح ان ميرتون أولى أهمية للدراسات الامبريقية في النظرية الوظيفية بدلا من التركيز على الدراسات الامبريقية لظواهر محدودة كجنوح الاحداث أو مدى علاقة أدوات الضبط الاجتماعي في الانحراف وما إذا كانت الانحرافات ناجمة عن خلل في التنشئة الاجتماعية أو المنظومة القيمية والمعيارية كما أن ميرتون فرق بين " الدور" الذي يعالج فكرة الصراعات في المجتمع ويزداد تنوعا وتخصصا في المجتمعات المعقدة وبين " الوظيفية "، فالفرد مثلا يمكن أن يؤدي ادوارا معقدة ومتخصصة ولكنه يعجز عن القيام بكل الوظائف. لهذا تبرز فكرة التخصص في الادوار عوضا عن القيام بشتى الوظائف .

العوق الوظيفي [ الاختلال الوظيفي ]

عدل

يؤمن ميرتون بأن العناصر الاجتماعية يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية، ولاصلاح هذا السهو الخطير في النظرية الوظيفية لجأ ميرتون إلى استعمال مفهوم " الاختلال الوظيفي ". إذ يرى ميرتون ان البنى والتنظيمات الاجتماعية مثلما تساهم في الحفاظ عل الأجزاء الأخرى للنسق الاجتماعي للمجتمع مثلما يمكن أن تكون لهما انعكاسات سلبية أيضا .

  • مثال :

كان للنظام العبودي في الولايات المتحدة آثارا ايجابية على المواطنين البيض لا سيما فيما يتعلق بتوفير الايدي العاملة الرخيصة التي ساعدت على تحسين اقتصاد القطن وحسنت من المكانة الاجتماعية للبيض، غير ان لهذه الميزة العنصرية آثارا سلبية جعلت السكان الجنوبيين في الولايات المتحدة يعتمدون كثيرا على الاقتصاد الزراعي مما أبقاهم غير مؤهلين "مهيئين " لتقبل التصنيع. فالفروق بين سكان الشمال وسكان الجنوب الأمريكي يمكن ارجاعه إلى العوق الوظيفي للنظام العبودي في الجنوب ففي حين أدى النظام العبودي وظيفة النمو الاقتصادي والاجتماعي في الشمال نراه أعاق عملية التقدم الاقتصادي في الجنوب .

تصنيفات ميرتون للوظائف

عدل

قسم ميرتون الوظائف في المجتمع إلى نوعين :

1. الوظائف الظاهرة

وهي التي ترمي إلى تحقيقه التنظيمات الاجتماعية. مثلا بأن تكون الجامعات مخصصة للدراسة والبحث العلمي والخدمة الاجتماعية .

2. الوظائف غير الظاهرة

وهي التي لاتأحذ التنظيمات الاجتماعية بالحسبان تحقيقها أو العمل لاجلها، كأن تمارس الجامعة وظائف سياسية أو اقتصادية أو تمثل فضاءات اجتماعية للتسلية والترفية واضاعة الوقت أو تحقيق مكانات اجتماعية ...الخ

الخـــــــــلاصة

لاشك ان توضيحات ميرتون تمثل اضافات هامة بالنسبة لعلماء الاجتماع الذين يصرون على استعمال التحليلات الوظيفية في دراساتهم للوظائف الاجتماعية، فتعديلات ميرتون للصيغ القديمة للنظرية الوظيفية تعد تعديلات ضخمة بحيث يمكن تسمية علماء الاجتماع الذين تبنوا تفكيره بـ" الوظيفيين الجدد "


الجزء الثاني :

النظرية الاجتماعية المعاصرة

عدل

نظرية الصراع الاجتماعي " رالف داهرندوف " R. Dahrendof

مفهوم الصراع الاجتماعي :

يحدث الصراع الاجتماعي نتيجة لغياب الانسجام والتوازن والنظام والاجماع في محيط اجتماعي معين. ويحدث ايضا نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية أو كليهما معا. أما المحيط الاجتماعي المعني بالصراع فيشمل كل الجماعات سواء كانت صغيرة كالجماعات البسيطة أو كبيرة كالعشاثر والقبائل والعائلات والتجمعات السكنية في المدن وحتى الشعوب والامم .

والفكرة الاساسية تتجلى في القول ان قضية الصراع بين المجموعات البشرية هي في الواقع ظاهرة عضوية في الحياة الإنسانية والعلاقات السائدة بينها. ويمكن ايراد نوعين من الأسباب حول استيطان الصراع الاجتماعي كظاهرة اجتماعية بين المجموعات البشرية :

1. ثمة ما يسمى بـ" الرموز الثقافية " وهو نوع من الاسباب التي تؤدي إلى انسجام بين البشر أو إلى خصام. والخصام في هذا السياق قد يتجلى في الاختلاف على مفهوم السلطة المادية. فمن له الحق في السلطة وتملكها ؟ ولماذا ؟ هو سؤال يسمح بنشوب صراع .

2. ومن وجهة نظر ماركسية فان قضية العدالة الاجتماعية تعد متغيرا بنيويا في اثارة الصراعات الاجتماعية طالما ان هناك توزيع غير عادل للثروة .

بعض تعريفات الصراع الاجتماعي

يقدم علماء الاجتماع السياسي وعلماء الانثروبولوجيا بعض التعريفات التي تساعدنا في التعرف على معنى الصراع في ادبيات العلوم الاجتماعية، ولنأخذ اثنين من هذه الادبيات :

أولا : رالف داهرندوف

يقدم عالم الاجتماع الألماني هذا الصراع على انه "حصيلة العلاقات بين الافراد الذين يشكون من اختلاف في الاحداث " .

ثانيا : لويس كوزر

هو عالم اجتماع أمريكي معاصر اهتم بالنظرية الوظيفية وقدم مساهمة في نظرية الصراع الا جتماعي .

هذه المساهمة تعرف الصراع بـ :

" انه مجابهة حول القيم أو الرغبة في امتلاك الجاه والقوة أو الموارد النادرة " .

وفي هذا السياق للتعريف فان الاطراف المتصارعة لا ينحصر اهتمامها بكسب الاشياء المرغوب فيها بل انها تهدف إلى وضع المناوئين أما في حالة حياد أو ان يقع الاضرار بهم أو القضاء عليهم .

مشروعية الصراع الاجتماعي

§ الجذور :

تهتم النظريات السوسيولوجية باستكشاف أسباب الصراع الاجتماعي وانعكاساتها، وتحاول ان تطرح رؤىً فكرية بخصوص امكاية نفي المفهوم أو التحكم فيه. أي البحث في استعمال المفهوم وتوظيفه لتبرير غايات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى فلسفية. ولكن كيف ؟

ان الفكر النظري حول الصراع الاجتماعي هو فكر قديم جدا ولعل نظرية كارل ماركس حول الصراع الطبقي تمثل حصيلة لتراكم الزاد المعرفي لهذه النظرية. فالصراع الاجتماعي عند ماركس له جذور اقتصادية تشكل الطبقات الاجتماعية أساسه عند المجموعات البشرية. فالصراع الطبقي حسب الماركسية هو القوة المحركة للتاريخ .

من جهة أخرى يرى البعض كـ " روبرت مالتوس " صاحب النظرية الشهيرة في السكان بان الثروات وقتل الملايين من الافراد عبر وسائل العنف المتعددة والمتنوعة هي مسألة ضرورية لتقدم البشرية. بعبارة أخرى فالصراع الاجتماعي من هذا المنظور أساسيا وضروريا لإحداث تغير اجتماعي ايجابي وكأن فلسفة التقدم والتنمية التي اجتاحت أوروبا في القرن 19م ما كان لها ان تنجح لولا البعد العنفي الكامن فيها. وفي هذا السياق يبدو أن للصراع وظيفة ايجابية .

§ في علم الاجتماع

بالنسبة لنظرية الصراع في علم الاجتماع فيمكن الاشارة إلى المعالم التالية :

فمن جهة تُعَدُّ نظرية الصراع الاجتماعي كطليعة للفكر الماركسي، ومن جهة ثانية تُعَدُّ بديلا للنظرية البنيوية الوظيفية، بل انها تمثل مخرجا للنظريتين فهي من جهة تحمل بذورالوظيفية وفي نفس الوقت تحمل بذور الماركسية لذا فهي تستعمل مضامين وجواهر كلا من الوظيفية والماركسية بحيث يستحيل ردّ اطروحاتها إلى أي من هما منفردة .

كنا قد اشرنا إلى النقد الذي تعرضت له البنيوية الوظيفية على عدة مستويات باعتبارها نظرية محافظة ذات طابع ايديولوجي وغير قادرة على التعامل مع التغيرات الاجتماعية كونها ركزت في انطلاقاتها علىاستقرار البنى الاجتماعية حتى فقدت القدرة على تحليل الصراع الاجتماعي. لذا يمكن القول بان نظرية الصراع الاجتماعي تمثل محاولة قام بها العديد من علماء الاجتماع للمحافظة على الاهتمام بمفهوم البنية والاعتناء بنفس الوقت بمفهوم الصراع .

ويعد كتاب عالم الاجتماع الأمريكي " لويس كوزر" المنشور تحت اسم " وظائف الصراع الاجتماعي 1950 " أول محاولة تنظيرية في هذاالصدد. أي انه أول محاولة أمريكية تتعامل مع الصراع الاجتماعي انطلاقا من رؤية البنيوية الوظيفية مما يعني ان كوزر انفرد نوعا ما بنظرة ايجابية للصراع الاجتماعي. ومع ذلك فالبعض يرى ان دراسة الصراع الاجتماعي يجب أن يتجاوز الوظائف الاجتماعية الايجابية لهذا الصراع. فما الذي يعنيه هذا البعض ؟

المعنى يكمن في النظرية الماركسية. فلعل أبرز ضعف تشكو منه نظرية الصراع الاجتماعي هو فقدانها لارضية النظرية الماركسية، ولعل الاستثناء الوحيد في هذا الميدان هو عالم الاجتماع الألماني " رالف داهر ندوف " الذي حاول تلقيح نظرية الصراع الاجتماعي بأطروحة الفكر الماركسي فكان كتابه " الطبقة وصراع الطبقات " أهم عمل سوسيولوجي حول نظرية الصراع الاجتماعي .

ومع هذا فإن داهرندوف يكاد يستعمل نفس الاطار التحليلي الذي تبناه علماء الاجتماع الوظيفيون " البنى والتنظيمات الاجتماعية ". ومن ناحية أخرى فقد نبه داهرندوف إلى أن عناصر النسق الاجتماعي يمكن أن تعمل معا متناسقة ويمكن أن تعرف صراعا وتوترات ذات بال، فالمجتمعات تتمتع بحركية والصراع هو أحد ملامح هذه الحركية ومثلما ان هناك تناسق اجتماعي فثمة أيضا مجابهات وتوترات اجتماعية .

وفي النهاية يمكن النظر إلى نظرية الصراع الاجتماعي على أنها مرحلة عابرة في تاريخ تكون النظرية السوسيولوجية. ويعود فشل تبلورها إلى عدم الاستفادة الكافية من الفكر الماركسي الذي كان انتشاره ضئيلا قبل الخمسينات في القرن العشرين بين علماء الاجتماع الأمريكان ومع ذلك فالنظرية الصراعية هيأت الظروف المناسبة لقبول الفكر الماركسي بين المثقفين الأمريكان مع مطلع الستينات من نفس القرن .

ومما يؤخذ على نظرية الصراع الاجتماعي أيضا أنها تركز في تحليل