عبقرية الحضارة الإسلامية/مقدمة

« عبقرية الحضارة الإسلامية
مقدمة
»
في الجاهلية

ما جعلني أكتب هذا البحث أن الكاتب البريطاني (فيدهارد نيبول) الذي نال مؤخراً جائزة نوبل في الآداب على رواياته التي هاجم فيها الإسلام وادعى أنه يجلب التخلف، وأنه فصل كل الشعوب غير العربية عن جذورها الحضارية والثقافية، وقال: "إن الإسلام وضع حضارة الهند القديمة في منطقة مظلمة"، وبعد الكارثة الأمريكية الكبرى في سبتمبر نجد أن الإرهاصات الإعلامية قد تدافعت وتلاحقت للنيل من الإسلام ووصمه بالتخلف. لكن هذه الكارثة كانت إحياءً للإسلام، فتكالبت شعوب أهل الأرض للتعرف عليه، فقرأت عن تعاليمه وتعرفت على حضارات شعوبه وطالعت قيمه الحضارية والإنسانية، مما جعل الآلاف يؤمنون به. وهذه الصحوة الإسلامية جعلت المستضعفين والمغلوبين علي أمرهم والضالين والتائهين يجدون في الإسلام ضالتهم المنشودة بين ركام عالم قوضته أحداث سبتمبر وسقوط الشيوعية العقد الماضي، فآمن الآلاف منهم علانية وأعلنوا إسلامهم طواعية وعن يقين بعظمة هذا الدين. فاكتشفوا فيما اكتشفوه أن الإسلام يدعو إلى الحق والعدل والمساواة والأخوة الإسلامية بنظرة إيمانية ثابتة، ولا يقر الظلم أو القهر، ويدعو لنصرة الضعفاء ونجدة المحتاجين وغوث الملهوفين. لأن كلمة الإسلام أن يسلم المرء أمره لله سبحانه، وأنه يضفي السلام على البشر جميعاً، فلا إكراه في دينه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرن ففيه أن كل نفس بما كسبت رهين.

والإسلام نجده ينتشر تلقائياً بدون صخب إعلامي، وكلما استضعف أهله كلما انتشر. فلقد غزا التتار اللادينيون بغداد وحطموا صروح الحضارة بها وأسقطوا الخلافة العباسية وأقاموا المذابح للمسلمين في كل المشرقين الإسلامي والعربي، ورغم الهوان الذي كان فيه المسلمون وقتها عاد التتار لبلادهم مسلمين، وأقاموا أكبر حضارة في تاريخ الهند وهي الحضارة المغولية الإسلامية في ظلال إمبراطورياتهم التي امتدت في فارس وأفغانستان وبنغلادش وباكستان، وكانت دلهي العاصمة. وظلت هذه الإمبراطورية قائمة لعدة قرون وآثارها ثبتت لم تمح من هناك حتى الآن. وقامت حضارات الغزنويين والدارونيين وحضارات ما وراء النهرين، وهذه حضارات أقامت مدن بخارى وسمرقند وغيرها من مدن الهند، وكشمير وباكستان وأفغانستان وبلدان آسيا الوسطى، حيث ظهرت إمبراطورية تيمور لنك وعاصمتها سمرقند، وكانت هذه الإمبراطورية قد حكمت موسكو التي كانت تدفع لها الجزية.

وكانت الخلافة الإسلامية العثمانية وعاصمتها الأستانة (إسطنبول) في أوجها، ولا سيما خلال القرنين الخامس والسادس عشر، تضم مصر والشام وإيران والعراق والحجاز وتونس وليبيا والجزائر، وفي شرق أوروبا كانت تضم أجزاءً من رومانيا واليونان والصرب ومقدونيا وألبانيا والبوسنة والهرسك والمجر وبلغاريا حتي بلغت فيينا بالنمسا، وكانت القوة الأعظم بلا منازع في العالم وقتها. وقامت الخلافة الأموية الثانية بالأندلس لتضم جنوب غربي أوروبا، وبلغت وسط فرنسا وكانت تضم جنوب إيطاليا وجزر صقلية وسردينيا وكورسيكا حتي بلغت القوات البرية والبحرية منها روما عام 809م. وكان البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية، بما في ذلك كريت ومالطة ورودس وكورسيكا وجزر البليار وصقلية وسردينيا وجزر بحر إيجة، ولم يبق سوى طرفا الهلال عند القسطنطينية والطرف الآخر عند روما وما بينهما كان يخضع للحكم الإسلامي العادل.

والإسلام في كل البلدان التي دالت له وفي كل الشعوب التي دانت به قد أقام حضاراته التي ظلت توابعها تتراءى على العالمين بأصالتها وقيمها، وما زالت بصماتها تتراءى لنا بما لا يدعو للتشكيك في عظمتها، لأنها أوابد راسخة في وجدان وثبت التاريخ الإنساني كحضارة متفرّدة فاقت كل الحضارات، فقد قامت على أسس إسلامية لا جدال فيها أو حولها، وهي أم الحضارات وباعثة نهضة وحاملة مشاعل الفكر والتنوير لهذه الشعوب التي عانت من الفقر والجهل والظلم والعبودية. فكان الإسلام هادياً ومبشراً ومنقذاً للعالمين من وهدات التخلف وإرهاصات الفكر السلفي الذي ران فوق العالم قبل ظهور الإسلام.