الفرق بين المراجعتين لصفحة: «تاريخ الإسلام/الدولة الفاطمية»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
ط روبوت: تغييرات تجميلية
ط تدقيق إملائي. 528 كلمة مستهدفة حاليًا.
سطر 318:
وذكر ابن كثير أعمالهم التي قادها أبو طاهر الجنابي الباطني حين وصل مكة فقال: «فانتهب أموالهم واستباح قتالهم, فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقًا كثيرًا, وجلس أميرهم أبو طاهر -لعنه الله- على باب الكعبة والرجال تصرع حوله, والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام, في الشهر الحرام, في يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام وهو يقول:
أنـــا اللـــه وباللــــه أنــا أنــا أخلــق الخــلق وأفنيـهم أنـا
فكان الناس يفرون منهم, فيتعلقون بأستار الكعبة, فلا يجدي ذلك عنهم شيئًاشيءًا, بل يقتلون وهم كذلك, ويطوفون فيقتلون وهم في الطواف.. إلى أن قال: «فلما قضى القرمطي -لعنه الله- أمره, وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم, ودفن كثيرًا منهم في أماكنهم من الحرم وفي المسجد الحرام, وهدم قبة زمزم, وأمر بقلع باب الكعبة, ونزع كسوتها عنها وشققها بين أصحابه....» ( ), وقد حدد بعض العلماء عدد من قتل بثلاثة عشر ألف نسمة وقيل: زهاء الثلاثين ألفًا( ) وكان ذلك سنة 317هـ.
وأما متى ظهر مذهب الباطنية فاختلف العلماء في ذلك, فبعضهم قال سنة 205هـ, والبعض الآخر يرى سنة 250 هـ, ونتيجة للسرية المفروضة على أتباع هذا المذهب يتعذر التحديد الدقيق لزمن ظهورهم, وإن كانت أقوال العلماء تترجح ما بين سنة 200هـ, أي بعد انتشار الإسلام وإعزاز أهله, وانطفاء نار المجوسية واندحار اليهودية, واندثار الأصنام الوثنية, وانهزام الأمة الصليبية, فأكل الحسد قلوب الخارجين عن الإسلام من هذه الأمم المهزومة, وبدؤوا يخططون في الخفاء بطريقة ينفسون فيها عن أحقادهم للطعن في الإسلام وأهله, ورفع راية
الشيطان وحزبه, فاتخذوا لهذا الهدف الدنيء عدة أقنعة تستروا بها لتحقيق ما يهدفون إليه منها:
سطر 391:
قال ابن كثير -رحمه الله- في المهدي: «وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني »( ). وصفته الواردة: «أنه أجلى الجبهة, أقنى الأنف»( ).
مكان خروجه:
يكون ظهور المهدي من قبل المشرق, فقد جاء في الحديث عن ثوبان  قال: قال رسول الله ×: «يقتل عند كنزكم ثلاثة: كلهم ابن خليفة, ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق, فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم...» ثم ذكر شيئًاشيءًا لا أحفظه.. فقال: «فإذا رأيتموه, فبايعوه, ولو حبوًا على الثلج, فإنه خليفة الله المهدي» ( ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: «والمراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة, يقتتل عنده ليأخذه ثلاثة من أولاء الخلفاء, حتى يكون آخر الزمان, فيخرج المهدي, ويكون ظهوره من بلاد المشرق» لا من سرداب سامراء, كما يزعم جهلة الرافضة من أنه موجود فيه إلى الآن, وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان, فإن هذا نوع من الهذيان, وقسط كبير من الخذلان شديد من الشيطان, إذ لا دليل على ذلك, ولا برهان, لا من كتاب, ولا من سنة, ولا معقول صحيح, ولا استحسان.. إلى أن قال: «ويؤيد بناس من أهل المشرق ينصرونه, ويقيمون سلطانه, ويشيدون أركانه, وتكون راياتهم سودًا أيضًا وهو زي عليه الوقار؛ لأن راية رسول الله × كانت سوداء يقال لها: «العقاب».
إلى أن قال: «والمقصود أن المهدي الممدوح الموعود بجوده في آخر الزمان يكون أصل ظهوره وخروجه من ناحية المشرق, ويبايع له عند البيت, كما دلت على ذلك بعض الأحاديث»( ).
سطر 414:
قال يوسف الوابل في أشراط الساعة تعليقًا على قول ابن خلدون: «ونقول:
لو صح حديث واحد, لكفى به حجة في شأن المهدي, كيف والأحاديث فيه صحيحة متواترة»( ).
قال الشيخ أحمد شاكر ردًا على ابن خلدون: «إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين: الجرح مقدَّم على التعديل, ولو اطلع على أقوالهم وفقهها, ما قال شيئًاشيءًا مما قال, وقد يكون قرأ وعرف, ولكنه أراد تضعيف أحاديث المهدي بما غلب عليه من الرأي السياسي في عصره»( ). ثم بين أن ما كتبه ابن خلدون في هذا الفصل عن المهدي مملوء بالأغاليط في أسماء الرجال ونقل العلل, واعتذر عنه بأن ذلك قد يكون من الناسخين, وإهمال المصححين.
وما ذهب إليه محمد رشيد رضا وابن خلدون ومحمد فريد -رحمهم الله- ليس صوابًا, وإنما الحجة في كتاب الله وسنة رسوله ×, والروايات المذكورة في خروج المهدي صحيحة متواترة معنويًا, وهذا يكفي, وأما كون الأحاديث قد دخلها كثير من الإسرائيليات, وأن بعضها من وضع الشيعة وغيرهم من أهل العصبيات, فهذا صحيح, ولكن أئمة الحديث بينوا الصحيح من غيره, وصنَّفوا الكتب في الموضوعات وبيان الروايات الضعيفة, ووضعوا قواعد دقيقة في الحكم على الرجال, حتى لم يبق صاحب بدعة أو كذاب إلا وأظهروا أمره, فحفظ الله السنة من عبث العابثين وتحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وهذا من حفظ الله لهذا الدين.
وإذا كانت هناك روايات موضوعة في المهدي تعصبًا فإن ذلك لا يجعلنا نترك ما صح من الروايات فيه, والروايات الصحيحة جاء فيها ذكر صفته واسمه واسم أبيه, فإن عيَّن إنسان شخصًا, وزعم أنه هو المهدي, دون أن يساعده على ذلك ما جاء من الأحاديث الصحيحة, فإن ذلك لا يؤدي إلى إنكار المهدي على ما في الحديث, ثم إن المهدي الحقيقي لا يحتاج إلى أن يدعو له أحد, بل يظهره الله إلى الناس إذا شاء, ويعرفونه بعلامات تدل عليه.
سطر 551:
قال عنه الذهبي: «وكان بطلاً شجاعًا, رابط الجأش, فصيحًا مفوهًا يرتجل الخطب, وفيه إسلام في الجملة وعقل بخلاف أبيه الزنديق»( ).
قلت: وقول الذهبي: وفيه إسلام في الجملة فيه نظر.
وذكر الذهبي شيئًاشيءًا من كرمه فقال: «وقد جمع مرة من أولاد جنده ورعيته عشرة آلاف صبي, وكساهم كسوة فاخرة, وعمل لهم وليمة لم يسمع قط بمثلها, وختنهم جميعًا, وكان يهب للواحد منهم المائة دينار والخمسين دينارًا على أقدامهم.
ومن محاسنه أنه ولى محمد بن أبي المنظور الأنصاري قضاء القيروان, وكان من كبار أصحاب الحديث, ولقد لقى إسماعيل القاضي, والحارث بن أبي أسامة, فقال: بشرط أن لا آخذ رزقًا ولا أركب دابة, فولاه يتألف الرعية, فأحضر إليه يهودي قد سب فبطحه, وضربه إلى أن مات تحت الضرب لعلمه أنه لو رفع إلى المنصور لا يقتله فضربه القاضي مظهرًا ضرب الأدب حتى قتله»( ).
توفي في سنة إحدى وأربعين ومائة بسبب برد وريح عظيمة أصابته مع جنوده وحاشيته عندما كان يتنزه.
سطر 931:
(362- 373هـ/ 972- 983م)
أصبح يوسف بلكين بن زيري واليًا أو أميرًا لكل بلاد إفريقية, وهو أول حاكم لبلاد المغرب من أصل بربري بعد الفتح الإسلامي, وكان متفانيًا في خدمة العبيديين وتوسيع أملاكهم, واشتد الصراع العنيف بين قبائل صنهاجة وقبائل زناتة, واستعمل الحاكم الصنهاجي أبو الفتوح القوة والعنف والشدة للقضاء على سيادة قبائل زناتة, واستطاعت الدولة الأموية في الأندلس أن تستفيد من هذا الصراع ووجهت ضربة ماكرة للدولة العبيدية فدعمت قبائل زناتة بكل ما تملك حتى استطاعت أن تقف في وجه الصنهاجيين التابعين للعبيديين, وكانت سياسة الصنهاجيين مبنية على العنف والقوة مع الزناتيين فلم يسعوا لكسب ودهم أو مهادنتهم, واستغلت الدولة الأموية هذا الصراع حتى فصلت المغرب الأقصى عن سيادة بني زيري( ).
وأظهر الأمير بلكين نشاطًا واسعًا وعملاً دؤوبًا, وكان محافظًا على تبعيته للعبيديين وولائه للمذهب الإسماعيلي الباطني, إلا أنه لم يتشدد هو والأمراء الذين جاءوا بعده بمطالبة الناس بالتشيع, فانفسح المجال نسبيًا أمام علماء أهل السنة لنشر السنة, وبدأت الحياة العلمية تعود إلى المساجد والكتاتيب شيئًاشيءًا فشيئًا, غير أن تلك المظاهر الرسمية من التبعية لحكام مصر والدعوة لهم على المنابر كانت تقلق العلماء, وأسهمت في إيجاد هوة عميقة بينهم وبين حكام بني زيري, فمضوا في محاربة هؤلاء الحكام الذين لم يكونوا متحمسين للدعوة الإسماعيلية, والتف أهل الشمال الإفريقي حول علمائهم, وواصلوا مقاطعة الدولة, غير أن هؤلاء الحكام لم يستطيعوا الإعلان بموافقة علماء أهل السنة خوفًا على سلطانهم, وأحس أهل القيروان بذلك فراح علماؤهم يعملون جاهدين على نشر السنة وآراء السلف, فعجت حلقات العلماء بطلاب العلم في القيروان من جديد, وكثرت المؤلفات في بيان دين الإسلام الصحيح, وكان التخلص النهائي من أتباع العبيديين, وانتصار أهل السنة على الروافض في الشمال الإفريقي على عهد الأمير السني والسيف القاطع والطود المنيف الأمير المعز بن باديس.
* * *
سطر 987:
ومن أشهر القبائل العربية التي زحفت على ملك المعز بن باديس بنو سليم بن منصور, وبنو هلال بن عامر وهم من مضر, وكانت زغبة والأثيح, وعدي, ورياح من الهلاليين من بني عامر بن صعصعة وبني هاشم بن معاوية بن بكر, وهذه القبائل مضرية عدنانية.
وقبيلة كهلان وهي قحطانية, وقبائل أخرى كثيرة غير مشهورة.
وعندما رحلت بنو رياح والأثيح وبنو عدي إلى إفريقية يريدون اللحاق بالقيروان, قال لهم مؤنس: ليس هذا برأي يحتاج إلى تدبير, فقالوا له: وماذا نصنع؟ فقال: ائتوني ببساط فأتوا به, فبسطه وقال لهم: من يدخل إلى وسط البساط من غير أن يمشي عليه؟ فقالوا: ومن يقدر على ذلك؟ فقال: أنا, فطوى البساط وأتى طرفه وفتح منه مقدار ذراع ووقف عليه, ثم فتح شيئًاشيءًا آخر ودخل إليه وقال: هكذا فاصنعوا ببلاد المغرب, املكوها شيئًاشيءًا فشيئًا حتى لا يبقى عليكم إلا القيروان فأتوها فإنكم تملكونها, فقال له رافع بن حماد -وهو أحد رؤساء العرب- : «صدقت يا مؤنس, والله إنك لشيخ العرب وأميرها, فقد قدمناك على أنفسنا, فلسنا نقطع
أمرًا دونك».
وقد اقترعوا على البلاد فخرج لبني سليم شرقيها: برقة وما حولها, وخرج لبني هلال غربيها: طرابلس وقابس, وانضم بنو جشم إلى بني هلال.
سطر 997:
المبحث الرابع
الصدام المسلح بين المعز بن باديس والقبائل العربية
ذكر ابن الأثير دخول العرب إلى إفريقية في حوادث عام 442هـ إلى أن قال: «ثم قدم أمراء العرب إلى المعز بن باديس فأمرهم وبذل لهم شيئًاشيءًا كثيرًا, فلما خرجوا من عنده لم يجازوه بما فعل من الإحسان, بل شنوا الغارات, وقطعوا الطريق, وأفسدوا الزروع, وقطعوا الثمار, وحاصروا المدن, فضاق بالناس الأمر, وساءت أحوالهم, وانقطعت أسفارهم, ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله قط, فحينئذ احتفل المعز, وجمع عساكره, فكانوا ثلاثين ألف فارس ومثلها رجَّالةرجَّآلة, وسار حتى حيل بينه وبين القيروان ثلاثة أيام, وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس «والصحيح أنهم كانوا على قدر جيش المعز على قول صاحب موسوعة المغرب العربي» فلما رأت العرب عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم ذلك, وعظم عليهم, فقال لهم مؤنس بن يحيى: ما هذا يوم فرار؟ فقالوا: أين نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكزاغندات والمغافر؟ قال: في أعينهم, فسمى ذلك اليوم يوم العين, والتحم القتال, واشتدت الحرب, فاتفقت صنهاجة على الهزيمة, وترك المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم, ويقتل أكثرهم, فعند ذلك يرجعون على العرب, فانهزمت صنهاجة وثبت العبيد مع المعز, فكثر القتل فيهم, فقتل منهم خلق كثير, وأرادت صنهاجة الرجوع على العرب, فلم يمكنهم ذلك, واستمرت الهزيمة, وقتل من صنهاجة أمة عظيمة, ودخل المعز القيروان مهزومًا, على كثرة من معه وأخذ العرب الخيل والخيام وما فيها من مال وغيره( ).
وقد وصفت كتب التاريخ هذه الواقعة بأبشع ما توصف به الحروب من فظاعة القتل وكثرة القتلى, نتيجة لصمود كل من الجيشين للآخر في سبيل دحر خصمه والقضاء عليه, وقال الشاعر العربي علي بن رزق الرياحي أبياتًا في هذه المعركة يصف فيها ما دار بينهم وبين المعز:
وإن ابن باديس لأحزم مالك
سطر 1٬101:
وكان مهتمًا بعلم الأخبار وأيام الناس والطب وكان مغرمًا بالكيمياء,
وحاول ثلاثة من الباطنية قتله فدخلوا عليه زاعمين أن لهم دراية بالكيمياء إلا أن الله نجاه منهم.
قال الذهبي: «وقد وقف ليحيى ثلاثة غرباء, وزعموا أنهم يعلمون الكيمياء فأحضرهم ليتفرج وأخلاهم, وعنده قائد عسكره إبراهيم, والشريف أبو الحسن, فسل أحدهم سكينًا, وضرب الملك, فما صنع شيئًاشيءًا ورفسه الملك فدحرجه, ودخل مجلسًا وأغلقه, وقتل الآخر الشريف, وشد إبراهيم بسيفه عليهم, ودخل المماليك, وقتلوا الثلاثة, وكانوا باطنية, أظن الآمر العُبيدى ندبهم لذلك»( ).
وكان كثير المطالعة محبًا للجهاد فتح حصونًا ما قدر أبوه عليها, وكان رحيمًا للضعفاء شفيقًا على الفقراء يطعمهم في الشدائد فيرفق بهم, ويقرب أهل العلم والعقل من نفسه, وساس العرب في بلاده فهابوه وانكفت أطماعهم, وكان له نظر حسن في علم النجوم, وكان حسن الوجه على جانبيه شامة, أشهل العينين مائلاً في قده إلى الطول, دقيق الساقين( ).
وكان عنده جماعة من الشعراء قصدوه ومدحوه, وخلدوا مديحه في دواوينهم, ومن جملة شعرائه أبو الصلت بن عبد العزيز أمية بن أبي الصلت الشاعر الذي عاش في كنفه بعد أن جاب البلدان, وله في يحيى مدائح كثيرة أجاد فيها وأحسن, ومن جملة ما قاله من مديحه قصيدة:
سطر 1٬461:
وأنا على شرفي منجس ( )
 
وبعد اشتداد الحصار على النصارى طلبوا الأمان ونزل ملك بيت المقدس يترفق السلطان وذل ذلاً عظيمًا, فأجابهم صلاح الدين, ودخل المسلمون القدس ووفوا بالصلح المضروب مع النصارى, وشرعوا في تنظيف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير, وأعيد على ما كان عليه زمن المسلمين, وغسلت الصخرة بالماء الطهور وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر, وأبرزت للناظرين, وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين, ووضع الصليب عن قبتها وعادت إلى حرمتها, وامتن السلطان صلاح الدين على بنات الملوك ومن معهن من النساء والصبيان والرجال, ووقعت المسامحة في كثير منهم وشفع في أناس كثير فعفا عنهم, وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر, ولم يأخذ منه شيئًاشيءًا مما يقتني ويدخر, وكان رحمه الله كريمًا مقدامًا شجاعًا حليمًا( ), وكان ذلك في بيت المقدس فقال: «لما تطهر بيت المقدس مما فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقسس, ودخله أهل الإيمان, ونودي بالأذان وقرئ القرآن ووحد الرحمن, وكانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان, بعد يوم الفتح بثمان, فصف المنبر إلى جانب المحراب, وبسطت البسط وعلقت القناديل وتلي التنزيل, وجاء الحق وبطلت الأباطيل, وصفت السجادات وكثرت السجدات وأقيمت الصلوات, وأذن المؤذنون, وخرس القسيسون, وزال البؤس, وطابت النفوس, وأقبلت السعود, وأدبرت النحوس, وعُبِد الله الأحد الذي +لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ" [الإخلاص: 4،3]. وكبره الراكع والساجد, والقائم والقاعد, وامتلأ الجامع, وسالت لرقة القلوب المدامع, ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال, ولم يكن عيَّن خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبًا, فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة, وذكر فيها شرف بيت المقدس, وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات, وما فيه من الدلائل والأمارات, وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولها وكان أول ما قال: +فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام:45].
ثم أورد تحميدات القرآن كلها, ثم قال: «الحمد لله معز الإسلام بنصره, ومذل الشرك بقهره, ومصرف الأمور بأمره, ومزيد النعم بشكره, ومستدرج الكافرين بمكره, الذي قدر الأيام دولاً بعدله من طله وهطله «الندى والمطر», الذي أظهر دينه على الدين كله, القاهر فوق عباده فلا يمانع, والظاهر على خليقته فلا ينازع, والآمر بما يشاء فلا يدافع, أحمده على إظفاره وإظهاره, وإعزازه لأوليائه ونصره أنصاره, حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد, شهادة من طهر بالتوحيد قلبه, وأرضى به ربه, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك, ورافض الإفك, الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به منه إلى السموات العلى, إلى سدرة المنتهى +عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى", +مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى" [النجم: 17،15]. وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان, وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان, وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن, وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك, ومكسر الأصنام, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان»( ).
واستمر في خطبته الرفيعة المنيعة الممزوجة بالعاطفة الجياشة والمشاعر والأحاسيس المحبوسة إلى أن قال: فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية, والوقعات البدرية, والعزمات الصديقية, والفتوحات العمرية, والجيوش العثمانية, والفتكات العلوية, جددتم للإسلام أيام القادسية والوقعات اليرموكية, والمنازلات الخيبرية, والهجمات الخالدية, فجزاكم الله عن نبيكم أفضل الجزاء, وشكرًا لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء, وتقبل الله منكم ما تقربتم إليه من مهراق الدماء, وأثابكم الجنة فهي دار السعداء, فاقدروا –رحمكم الله- هذه النعمة حق قدرها, وقوموا إلى الله بواجب شكرها فله النعمة بتخصيصكم بهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة( )... إلى آخر ما جاء في الخطبة.
سطر 1٬596:
إن علماء الأمة على مر العصور والأزمان لا يرفعون فوق رؤوسهم الرايات, ولا يدعون إلى شعارات, ولا يطالبون الناس بالانتماء إليهم, إنما يطالبون الناس بالانتماء إلى سنة سيد المرسلين ×, وإياك أخي أن تكون مثل الخوارج الذين تركوا أهل العلم والفضل من الصحابة, وتابعوا الأعراب الذين لا يُجيدون إلا الخطابات الحماسية, وتأجيج العاطفة, فاحرص على الموثوق في دينه وعلمه:
«فإن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم»( ).
إن جيل صلاح الدين قادة وجنودًا, جماعات وأفرادًا, فهموا معنى قيمة العلم وممن يؤخذ, وأعطوا الفتوى لأصحابها, وتسلم العلماء الربانيون سياسة الأمة فقطعوا بها المراحل, وتدافع الجميع نحو مرضاة الله؛ وزراء وقواد وسلاطين وعوام, فأصبح شغفهم بالعلم والعلماء واضحًا معلومًا, وحرصهم على الجهاد وتفجير طاقاته شيئًاشيءًا ملموسًا من سيرتهم, إن الجهاد حق الأمة وليس حق الأفراد, وتقرره الأمة بالالتفاف حول أهل الحل والعقد الذين تقدمهم الأمة, وليس مجموعة من الأفراد يطعنون فيمن يخالفهم.
ثانيًا: من السمات الشخصية في صلاح الدين حرصه على العدل, وكان الأمراء والوزراء من قبل يتسلطون على الناس في أموالهم وأراضيهم, والملوك يسمحون لهم بذلك إرضاءً لهم وحتى تبقى طاعتهم.
ثالثًا: زهده في الدنيا ولذلك لم يخلف أموالاً ولا أملاكًا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم, وحتى إلى أعدائه, وكان متقللاً في ملبسه, ومأكله, ومركبه, وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف.