تاريخ الفلك/رسالة من وراء الشمس!!
في القرن الماضي دخلنا عصر الكواكب والهبوط فوق القمر، وهذا القرن، هل سندخل عصر النجوم؟ وفي البداية.. هذا تنويهٌ واجب، لأن هذا المقال انطباع كاتبٍ مزج فيه الخيال بالواقع. والخيال العلمي كان أهمَّ أداة تصورية في متاهة لغز الكون، وقد تحقق من الخيال واقعنا الفضائي وتصورنا الفلكي، بل والعلمي. فالمقال هو نتاج كاتبٍ وليس نتاج عالمٍ متخصّص. إن النبوغ تفوق تخصصي، والعبقرية سمة موسوعية تفكيرية تعتمد علي رؤية مبتكرة ومنطقية، لأن المنطق أقصر الطرق للحقائق. فالنابغة تطبيقي والعبقري تنظيري، وكلاهما يلتقيان عند الحقيقة المؤكدة، لأنَّ المنطق منطق والمعقول معقول. واللامنطق لامنطق واللامعقول لامعقول.
ففجأة وبلا مقدّمات انفجرت المركبة الفضائية فويجر بعدما ألقت بثقلها في محيط الكون وغاصت في فضائه، فرأت ما لم يره بشر ولا جان... ووصلت ما لم يصله إنسان والله أعلم.. واتصلت فويجر تليفونياً من حافة محيط الشمس لتودع مجموعتنا وتدخل أغوار اللا منظور، وتودّعنا للأبد وبلا رجعة فضائية. وهذا يعتبر عملاً رائداً، حيث وصلت لبعد لم تصله ولا مركبة فضائبة من قبل، بعدما فُكَّ أسرها من سجن الشمس وفلتت من جاذبيتها بالتحايل تارة وبالقوة نارة أخرى. ومن خلال سيرها الثعباني لتفادي العوائق والجواذب لم تر فيه ليلاً أو نهاراً، لكنها كانت ترى الكواكب الشمسية كمواحق أشبه بمحاق القمر أو كأهلَّة أو بدور. فليس مثل فويجر شيء في منظومتنا الشمسية، لأن سيرها متباعداً نطوي فيه الفضاء في خط طولي لا يمكن أن يُقَال عنه مع أو ضد عقارب الساعة، لأن كل الكواكب في فلك يسبحون في حركة إهليليجة بيضاوية حول الشمس وهم أسراها التسعة داخل إطار جاذبيتها. لكن فويجر تخطَّت هذه الحواجز في ماراثون يبلغ مداه بلايين الأميال التي لا تنتهي. وقد حكمت على نفسها بمدّ المدة التي كانت محددة بخمس سنوات نتيجة خطأ الحسابات أو السهو عن التوقعات أو لفقدان السيطرة عليها، مما حعل العلماء يعمهون وفي قلق على مصيرها، لأنها دخلت في المجهول والمحظور، ودخولها من باب ما وراء الشمس يسرّع من خطاها بعدما كانت تطاردها أشباح الجاذبية الشمسية. فهل ستتلقَّفها الجاذبية الكونية في المنطقة البينية بين مجال محيط الشمس الخارجي ومحيط أقرب النجوم المتاحة من جيرانها المقربين؟ أو ستظل تدور كأول قمر صناعي في المنطقة البينية؟ أو تدفعها بقايا الرياح الشمسية علي الحافة الشمسية؟ أو تصدها الرياح النجمية المجاورة فتكون ككرة البنج بونج بالفضاء أو كاليويو تشد كالوتر وترد عندما يزول أثر الشد عليها؟ لكن اللعب مع الكبار خطر لأن هيئة المركبة ستقع تحت قوة شد ستجعلها غباراً تذروه رياح شمسية أو نجمية ولا يبقى لها أثر. وفويجر بوصولها حالياً إلى حافة الشمس قد تصلح جرماً صناعياً يدور مع حركة دوران محيط المجموعة الشمسية ككل في فلكها العام، فتصبح المركبة نقطة متناهية الصغر فوق السطح الخارجي للمجموعة الشمسية، أشبه بجسيم ذرة خفي. وهذا المنظور التوقعي قد يكون نهاية حتمية لفويجر وهي علي بداية السلم الكوني. فلو تخطت هذه العقبة ستنطلق بلا هدى وتودع الشمس الوداع الأخير. فهل ستفقد النطق والاتصال بالأرض؟ فدخولها مجال ما وراء الشمس يعتبر أول غزو أرضي لهذه المجاهيل الفضائية، ولا يُعرَف مداها أو كنهها، ورغم هذه الحرية الانطلاقية ظلَّت فويجر أسيرة في سفاري المحموعة الشمسية. وحانت لحظة طلاق سراحها هذه الأيام (المفترجة) على العلماء والفلك.
بعد خدمتها بالفضاء 12 سنة عاشتها أسيرة مجموعتنا الشمسية.. فهي الآن على آخر نقطة حدود شمسية، لتدخل في مرحلة الصدمة النهائية. وبعد انتهاء خدمتها جمحت فويجر وأخذت تنطلق بينما الأرض من خلفها والفضاء أمامها، وكانت هذه المركبة عند إطلاقها للفضاء مُقدَّراً لها أن تستمر خمس سنوات، إلا أنها تجاوزت العمر الافتراضي وأصبحت مركبة طائشة تتوغل في أعماق الفضاء المترامي، لتعبر مجال كوكب شمسي لكوكب آخر. وكلما سارت كانت ترسل صورها النادرة وتكشف عن أسرارها وأقمارها. وهذا السلوك الفضائي غير المسبوق كان مدعاة لعلماء الفضاء القابعبن في معاملهم وخلف تلسكوباتهم العملاقة التي تعتبر رؤيتها رؤية معتمة بالنسبة لمدى رؤية تلسكوبات فويجر، حيث الفضاء أمام ناظريها يتميز بالتناسق والرؤية الواضحة، لأن الفضاء أمامها بانوراما فضائية واضحة نسبياً. وهذا ما جعل مسيرة فويجر مسيرة تاريخية لم يسبقها فيها إنس ولا مسير، فهذه المركبة زوِّدت بأحدث ما في جعبة علماء الفضاء من أجهزة ومعدات وتلسكوبات مصورة ترسل صورها أولاً بأول، ممَّا يجعل هذه الرحلة فتحاً جديداً في علوم الفضاء، ستعيد فيها البشرية صياغة المعلومات عن الكواكب والنجوم والمجرات والسدم والثقوب السوداء والغبار الكوني والأشعة الكونية والأشعة الخلفية للكون. وهذ المهمة ستقوم بها هذه المركبة الأسطورية التي ستشكل الكون من حولنا من منظور فلكي جديد، وستلقي بأسئلة ستشغل عقول العلماء بل وستشغلهم طوال هذا القرن، وسيكون فلك القرن الماضي فكراً وعلوماً تراثيَّة قاصرة في عالم اليوم.. بعدما كانت تسود عصرها في عصر ما قبل فويجر الذي يطالعنا حالياً، والذي سيكون عصر الفتوحات الفضائية الحديثة.
فكثير من الفرضيات ستصحّحها فويجر أو تؤكدها من خلال معطياتها البصرية والاستشعارية، وعلى رأي القول يوضع سرّه في فويجر. ففويجر تقتحم الفضاء إلى أن تقف أو تتوه فيه.. وهذا التيه الفضائي قد يدخلها عوالم لم نسمع عنها أو لم نرها من قبل، أو حتى نتصورها أو نتخيلها. لكن الكارثة هي لو كفَّت عن العمل وإرسال الصور والبيانات إلينا، فسيصبح بعدها وجودها كعدم وجودها، لأنها وقتها ستحال إلى الضياع القسري. لكن بعد عقودٍ قد يُعثَر عليها في منطقة بينية في منطقة الصفر الجاذبية بينها أو مرتطمة بجرم فضائي وقد تهشمَّت في صمت بعيداً عن مدى رؤيتنا البصرية أو التلسكوبية أو الاستشعارية، أو تبعثر حطامها كانتحارٍ قسري، فتبدَّدت هباراً منثوراً، ولم يبقَ منها أثر بعد عين. وهذه النظرة التوقعية تتسم بالاحتمالية المستقبلية لفويجر الحاضرة في الفضاء والغائبة عن ناظرينا على بعد بلايين الأميال فوق العتبة الأولى من الدرب الكوني السحيق، وهناك احتمالية قائمةٌ وواردة أن تنحرف عن مسارها العشوائي حالياً لتدور حول فلك جرم قد يشدُّها بجاذبيته في حلقة جاذبية مغلقة، فيدور معها وحولها لتصبح قمراً صناعياً متناهي الصغر. وفي هذه الحالة لن تحتاج إلى طاقة لتسييرها، لأنها ستدور بالقصور الذاتي الجاذبي، ولن تتعدى محيط دورانها، لأنها ستكون ضمن منظومة هذا الجرم، وسيكون مصيرها مرهوناً بمصيره، لتكون أول كوكب صناعي دوار خارج الأرض بل خارج مجموعتنا الشمسية. ففويجر صانعة تاريخها بعد تمرُّدها عن خط السير الذي رسمه علماء الفضاء لها، لكن ملفها يتسم بحسن السير والسلوك رعم سلوكها، لأنها تدور في الفضاء بغير هدى، ورغم هذا ما زالت حتى اليوم مرتبطةً بالأرض الأم. فرحلتا مركبتي الفضاء فويجر 1 وفويجر 2 استعراضٌ لقوة العقل البشري الفعَّال الذي زجَّ بهما في أتون أكبر ملحمة واقعية سجلت في وقائع تاريخ الإنسان.