النقد البنيوي/مقدمة

بقلم : د. محسن عطيه

تدرس ظاهرة الفن بنيوياً،مثلما يدرس العمل الفنى كبنية تقارن ببنى أخرى تشترك معها في الجوهر. وفىالحقيقة يتألف كل طراز فنى من مجموعة من البنى أوالأعراف أوالتقاليد في إطار ثقافة معينة. ويرتبط معنى العمل الفنى بعلاقته بالطراز الذى يشمله،وبنظام معاييره الجمالية. أما العلاقة الحميمة مع الطبيعة فتحافظ بقوة على الصلةالعاطفية الوثيقة بين الإنسان وأمنياته في الحياة. ويستعين الناقد في تحليلاته البنيوية بما يستخلصه في العمل الفنى من علاقات بدا مثل متشابهة وأخرى متعارضة،كسبيل لاكتشاف البنية الأساسية ودلالتها ونظامهاالكامن فيها ،وكذلك ميولها الخاصة ولغتها الرمزية. وتتشكل البنية من جزء وكل أو نسق تبسيطى ، مستقلا ًعن العوامل التاريخية،وبواسطته يقارن بأعمال الفن التى تشترك معه فىالنوعأو المذهب أوالإتجاه،كسبيل لاستنباط البنية ودلالتها ،دون التعرض للمسائل التقييمية.

الحصان المرقط. كهف لاسكو. العصر الحجرى. فرنسا

وتمثل رسوم كهوف العصر الحجرى القديم تفاعل الإنسان في ذلك الوقتم ع عالمه مثلما أدركه. وتلك الصور للحيوانات هى بمثابة صور ذهنية، وهى الخطوات الأولى للوعى الإنسانى الذى أدى إلى النمو فنيا، للدرجة التى تمكنه من تمثيل عالمه ومعتقداته ومفاهيمه الروحيةبصور مرئية ،فضلا عن تطوره التقنى.لقد استطاع البدائيون تصوير العالم من حولهم بطريقة مذهلة،وكأنهمأمتلكوا الجمال منذالبداية. وعندما زار ”بيكاسو“ تلك الكهوف (لاسكو)سنة 1940 انتابه الذعر، وبدا مكفهرا وهو يتمتم بكلمته“ نحن لم نخترع شيئا“. ويقصد أن الأسلاف قد توصلوا إلى ما نحلم أن نصل إليه.

الحيونات فى كهف لاسكو، العصر الحجرى. فرنسا

يستخلص الناقد البنيوى الخصائص المميزة للعمل الفنى ،ليضعها في شكل علاقات متقابلة أو نسق من شقين متقابلين ،وقد يكفى نموذج واحد لشرح مجموعة من العلاقات الشكلية . وبذلك يتناول الناقد البنيوى كل بنية جمالية بطابعها المميز.فإن الفن في " عصر النهضة " مثلا ،يتميز ببنيته المختلفة عن بنية " الفن الحديث ".أما لوحة "بوتيتشيللى" ( 1444-1510) بعنوان " الربيع "(بمتحف الأوفتسى - فلونسا)التى تصور " ربة الربيع " حزينة في ملابس أنيقة،فيمكن شرحها ببنية تبسيطية من علاقة شقين متقابلين ،مثل العلاقة: الأناقة/الحزن في مظهر إحتفالى بين الزهور المتفتحة،أو العلاقة :الألوان المضيئة/الخلفية المعتمة،أو العلاقة:تزهير الطبيعة/الحب العقيم .

بوتيتشيللى، " الربيع "(بمتحف الأوفتسى - فلونسا)

تستند البنيوية إلى التحليل وإعادة التركيب ،فلا يهم حينئذ المضمون المباشر ،وإنما المهم البنية التى يتألف منها التشكيل،دون التعرض للظروف الخارجية التى أحاطت بالعملية الفنية. وينشئ الناقد البنيوى نموذجاً أو مخططاً يستخلصه من العمل الفنى في شكل بنية ،ليساهم في شرح العلاقات المختلفة فيه، ومنه يتوصل إلى النوذج الأكثر بساطة , ليمثل العمل ككل. وإذا أجريت دراسة نقدية لعمل فنى حديث من المذهب " الانطباعى " مثل لوحة"إنطباع ميناء هافر"(1872)التى رسمها"مونيه"C.Monet (1840-1926) استنادا إلى بنيته الكلية –التبسيطية التى تمثل الموضوع النيئ ،وتباينها مع بنية العمل الفنى الكلاسيكى . [[ملف:Monet - impression-sunrise.jpg| 280 × 230 (13 KB)px|تصغير|مركز|مونيه"إنطباع ميناء هافر"(1872) والبنية الأكثر إقناعاً هى الأكثر بساطة والأكثر دلالة على الجاذبية الجمالية . ووفقاً للمفهوم البنيوى تتألف البنية الفنية من مجموعة من الظواهر المتماسكة في وحدة شكلية،أو من تصميم كلى أومن نسق ،يفسر العمليات التى تجرى في التركيب الكلى لعلاقاته،لأن لكل نسق قوانينه الخاصة والمتميزة .أما " التكعيبية " فقد فككت الموضوع وحولته إلى نظام مسطح ،ثم تطورت إلى تقنية التلصيق،فالتقت العناصر غير المتوقعة بطريقة قلبت التعبير الفنى بعنف ،فجمعت أعمال الفن بين المتناقضين - الخيالى والواقعى . ويلصق " بيكاسو " في المرحلة التكعيبية التركيبية قصاصات الجرائد والكتابات,ثم يضيف الخطوط والألوان، لإستكمال التصميم،مثل لوحة " قنينة وجيتار وجريدة "(1913) فيحل التلصيق التناقض بين الواقع المرسوم والواقع الحقيقى ،ويقدم معادلاً للهجوم على مبدأ الإيهام الذى لكلاسيكية " عصر النهضة " في شكل بنية من شقين:الواقع/ما فوق الواقع، أو الحقيقى/المرسوم. يمكن تفسير لوحة" فتاة أمام المرآة "(1932) للفنان "بيكاسو"فى علاقة :السالب/الموجب،أو المرآة/ الروح،أو المرآة/ التفرس.هنا تقع صورة الوجه في المرآة كأنه قابع في اللاشعور .لقد حلل "بيكاسو" في رسومه التكعيبية صور الأشكال من أجل إعادة تركيبها دون أن يفقدها خصائصها الأصلية . وقد ضاعف الجمع بين الزاويتين الأمامية والجانبية معاً من فكرة الإنعكاس ،فأحدث إلتباسا، وذلك يؤكدعلى أن الصورة المنعكسة على سطح المرآة ، هى التمثيل الروحى للجانب الخفى من الشخصية ،والقابع في اللاشعور.

ويسمح التحليل البنيوى بتفسير دلالة العمل الفنى. وقداتجهت البنيوية نحو الجذور الثقافية،مكرسة عالم الفن للحاضر المشبع برمزية العصر. والعمل التلصيقى الذى أنجزه "محسن عطيه"بعنوان "بين أشياء صغيرة"(2014) كتمثيل بشىء حقيقى (جاهز الصنع) للتعبير عن فكرة إنسانية تخلط الحاضر بالمستقبل. والنقد البنيوى يستخلص في العلاقات الثنائية المتناقضة التى تساهم في شرح العمل الفنى مثل: الهامش /الجوهر، الجميل/المستهلك ،الفن/السلعة. هكذا يساهم استخلاص بنية عمل فنى إلى تعميق فهم معناه . لأن الفن دائماً هو نتاج تقاليد وأعراف طراز معين وثقافة معينة،ومنها ثقافة عصر تكنولوجيا الإتصالات. ولما كان الفن هو تجسيد للقيم، فلذلك لاتنفصل البنية عن مفاهيم القيمة أوعن المعايير الوظيفية،مثلما لا يستغنى في دراسة البنية عن الإستناد لفلسفة جمالية أو نقدية . وفى الحقيقة أن لوحات "محسن عطيه " تمثل منعطفاً هاماً في تطور البنيوية.إنها لوحات مبتكرة/مستفزة//حيوية،فهى تدفع المشاهد لاقتحام اللوحة وتجربتها، فتشمل الإشارات /العملية، والحركة/الفعل. لقد أخضع "محسن عطيه" عمله الفنى لنوع من التعبير يسمح .بالكشف عن الجانب المجهول من ذاته، ولتشكيل رمز لا شعورى . وهنا يوجه المشاهد نحو الفن كنشاط مفاهيمى، ونحو سيكولوجية الخبرة الفنية، فاخضع التجربة الفنية لتسجيل الفعل الجمالى-التلقائى، والرمزية الكامنة – الكناية،أكثر من كونها تشابه مجازى.. ويحفز اللاشعور الطاقة المكبوتة للانطلاق عبر ممارسات فنية تسمح بالتكثيف(توسيع الفكرة) وبالإزاحة-التنكر(منح عنصر عادى دلالة مستترة ). وبينما تزامن الفن الحديث مع انتشار مبادئ الحرية والفلسفة الوجودية بحسها القلق، فإن البنيوية قد صعدت مع غروب شمس الوجودية، فتخلصت الحركات الفنية من قلق الوجودية، واتجهت نحو الجذور الثقافية، مكرسة عالم الفن للحاضرالأبدى المشبع بالرمزية في عصرالاستهلاكية والأضواء البراقة. وإذا كانت الرومانسية تحتفى بالفنان، وركزت المذاهب الشكلية على موضوع الفن ذاته ، فإن البنيوية تركز على العملية الفنية وعلى تحليل المبادئ التى تصنع الفن وسياقه.

_________________________________________________________-