النقد البنيوي/تحليل ميشيل فوكو
بقلم: د. محسن عطيه
ينطلق تحليل "ميشيل فوكو" Michel Foucault (1926-1984) للوحة "وصيفات الشرف" (1656)لـ "فيلاسكيز" Vélasquez (1599-1660) من قكرة الفن كتمثيل التى كانت موضوعاً أساسيا للفنانين منذ عصر النهضة واستخدام المرآة في تحقيق هذا التمثيل بطريقة غير تقليدية . فرغم غياب الموضوع الأصلى للصورة والذى هو "الملك"، نجده بظهر فقط منعكساً في المرآة، كما يستنتج من تفرس الشخوص خارج اللوحة. وبهذه الطريقة أصبح وجود الموضوع الأصلى (الملك) وجوداً" مجازيا" يقوى رمزية اللوحة المتمثلة في العلاقة الثنائية:إبداع الفنان في مقابل قوة الملك. وذلك توضحه هيمنة صورة الفنان على تكوين اللوحة، كوحدة مهيبة، بالمقارنة بمجموعة الأطفال، والتى تحتل الفراغ الأكبر. إن تمثيل الملك يتوقف في هذه اللوحة على فعالية لعبة المنظور، كوسيلة لاستحضار صورة الواقع.ويستخلص النسق الأساسى للوحة "الوصيفت "على شكل ثنائيات مثل: الملكفى مقابل الفنان ، والفنان في مقابل المشاهد، والاعتماد المتبادلفى مقابل الإلغاء المتبادل، مما يسمح بتعدد تفسيرالمعنى. وتتقاطع العيون في اللوحة، وتفاجىء بعضها بعضاً في شبكة معقدة للرؤية. أما المرآة فهى لا تعكس شيئاً في الواقع، لا الرسام " ولا شخصيات وسط اللوحة (الأميرة مارجريت والوصيفات) فهى تخفى أكثر مما تظهر، لأنها في هذه الحالة بمثابة التجسيد الرمزى لـ"الروح"، أما "الحقيقة "فتكمن في نفس المتأمل عبرالمرآة.
هكذا تمثل فكرة "التشابه" مركزاً للمنظومة المعرفية لعصر النهضة، وهى تتخذ شكلاً دائرياً، ومركز الدائرة هو التمثيل، كاستعارة رمزية للمعرفة التى جوهرها المحاكاة والتشابه. ويخطط الفنان المنظورانطلاقاً من زاوية واحدة وثابتة لإدخال المشهد الخارجى إلى حيزاللوحة، حتى يوحى بالعمق وبالمكان ثلاثى الأبعاد، اعتماداً على توفر نقطة تبدو فيها الخطوط المتوازية متلاقية، وكأنها هاربة. وفى الحقيقة لم تقتصر فكرة المنظورعلى "عصر النهضة" بل كان يتبعها الرسامون القدامى، غير أن رسامى النهضة استطاعوا تمثيل عدة موضوعات في حيز مكانى واحد، اعتماداً على تخطيط شفاف، يساهم في إظهار الموضوعات تتوالى وتتلاحق. فبدت اللوحة الفنية شبيهة بنافذة تنفتح على عالم أساسه التمثيل المنظورى. الذى يفسح المجال أمام مشهد خلفى، وكأنه بذلك يحدث ثقباً في مسطح اللوحة ليفتحها على العمق. وليس للمنظوردلالة تقنية- رياضية فقط، وإنما له كذلك دلالة فنية- جمالية. وتعبر لوحة "الوصيفات" عن نظام الفكر الكلاسيكى الذى أصبحت معه المعرفة مقترنة بانعكاس الذات على ذاتها. أما معرفة القرن الثامن عشر, فتتمثل في نسق من الدوائر المتداخلة، فيه تتشظى مرآة العقل وتعكس عدة صورغير مكتملة، مما يفسرتعدد دلالات العمل الفنى. وتعدد زوايا الرؤية دليل القدرة الإبداعية، في مقابل قدرة الملك الذى يتلاشى عبر المرآة. وتعكس لعبة المرايا في هذه اللوحة الأشياء دون تحقيق مبدأ التمثيل. وتلتقى في اللوحة الصيغ المزدوجة المتزامنة. وتشكل "الصورة الذاتية"(1875) لـ"سيزان" جزءا أساسيًا من أسلوبه ومن جمالية الفن الحديث، فهى تطرح تساؤلات مثل : هل يمثل البورتريه نمطاً فنياً جميلاً من اللمسات اللونية المباشرة وجذاباً؟ أوهل يعكس البورتريه شخصية الفنان ؟ أو يعكس مشاعر الفنان وعواطفه الذاتية؟ وفى الحقيقة أن "الصورة الذاتية " تحمل ما هو أكثر من لوحات الطبيعة الصامتة، وأكثر من مجرد تسجيل الملامح.وتحقيق التشابه، وأكثر من التعبير عن عناصر نفسية أو مشاعرية. ويستدعى تجاوز أغراض "المحاكاة " إعادة بناء صورة الفنان بواسطة الفنان ذاته، وتقديم اختيارات جديدة ومستقلة غيرالتى أتاحتها التقاليد الموروثة والتى كانت كافية لتحقيق الشبه.
أما الحركة الوطنية في إسبانيا في ظل استبداد الرجعية، أثناء احتلال" نابليون" للبلاد، فقد عثرت على صدى لها في لوحة "إعدام الثوار"( 1808) لـ”جويا“F.Goya (1746-1828) التى صورت بأسلوب جرىء نضال الشعب في سبيل الحرية. وقد اختار الفنان شخصيات عمله من البسطاء، للتعبير عن الانفعالات المتفردة، في مقابل الجنود الذين نفذوا حكم الإعدام، إذ محيت شخصياتهم بقدرغلظة قلوبهم ووحشيتهم. ويلاحظ هنا العلاقات المتناقضة بين الأضواء والظلال، وبين ضوء المصباح وزرقة الليل الكئيب، للتعبير عن حالة التوتر الدرامى .إذ كان "جويا" فناناً متمرداً يمقت الظلم والحماقة، وقد أظهر من خلال فنه وعياً نقدياً، فأبرز احتدام المشاعر والتناقضات بين الغليان العاطفى والبحث عن الجمال كطرفين متعارضين. وأصبح جسد الإنسان في غاية البشاعة والقبح وكأنه وحش.
تستند " البنيوية "كطريقة وصفية إلى التحليل وإعادة التركيب. فلا يهم حينئذ المضمون المباشر، وإنما المهم البنية التى يتألف منها التشكيل، دون التعرض للظروف الخارجية التى أحاطت بالعملية الفنية. وانطلاقاً من ذلك ينشىء دارس الفن استناداً إلى منهجه البنيوى نموذجاً أو مخططاً يستخلصه من العمل الفنى للتوصل إلى بنيته، فيساهم هذا النموذج في شرح العلاقات المختلفة فيه، ومنه يتوصل إلى النموذج الأكثر بساطة ليمثل العمل ككل. ويستوجب النظرلفن القرن التاسع عشر، كشكل ثقافى,التعامل معه كنظام رمزى يقوم على فكرة التعاقب على محور رأسى، يمثل عامل التغيرالزمنى- التاريخى . ومن مستويات الرؤية الفنية : المستوى المباشر والمستوى الرمزى، وينتهى بالمستوى النسقى الكامن وراء الرموز. وتتمثل البنية الكلية - التبسيطية للوحة "أكوام التبن في جيفرنى"(1888) من المذهب" الانطباعى" لـ "مونيه"C.Monet (1840-1926) في الموضوع النيىء وتباينها مع بنية العمل الفنى الكلاسيكى . إذ تتشكل البنية من جزء في مقابل الكل، أومن نسق تبسيطى مستقل عن العوامل التاريخية ، وبواسطته يقارن بأعمال الفن التى تشترك معه في النوع أو في المذهب أو في الاتجاه ، كسبيل لاستنباط البنية ودلالتها بدون التعرض للمسائل التقييمية. لقد مثلت لوحات "مونيه" الرؤية القريبة للعالم على عكس الرؤية الكلاسيكية للمكان في عصر النهضة. وكان الفنان الحديث قد أدرك القدرة الذاتية للألوان على تجسيد العمق والقرب، إذ للون قيمته المكانية. وبذلك أصبح للون الأصفر دلالة على القرب، وللأزرق دلالته على البعد. وفى الحقيقة يدفع اتباع الفنان للقواعد و للتقاليد الفنية للمزيد من التقليدية، أما عبقرية الفنان فتتوقف على قدرته على إعادة تشكيل القاعدة الفنية لتحقيق الطفرة.
لقد تخلى الفنان " الانطباعى " عن صياغة الفراغ بطريقة "كلاسيكية" تقدم رؤية بعيدة ، من أجل استرجاع قيم السطح بتفاصيله الدقيقة، ولتقديم رؤية قريبة للعالم . ومع ذلك نجد الفنان الانطباعى يحافظ على الفكرة الأولية لمنظورية عصر النهضة. لذا سجل ”مونيه“ برسمه لسلسلة لوحات "كاتدرائية روان"على مر ثلاث سنوات(1892-1894)التغيرات الضوئية بما يشبه الحلم، فرصد إحساسه البصرى الخاطف والمباشر لتغيرات ضوء الشمس من لحظة إلى أخرى، تاركاً على سطح لوحته آثار فرشاته مثقلة باللون.
لقد عبر" كلود مونيه" عن نبض الحياة في الأشياء من خلال التعبير عن ذاته. أما اكتشاف الخاصية الأسلوبية للفنان فتساهم في استخلاص مسيرته الروحية. ويمكن تفسير اللوحات المتتابعة التى يرسمها الفنان للموضوع الواحد كسياق تاريخى متصل، بحيث لا يتعامل المشاهد مع كل عمل بمفرده، وكأنه مكتفى بذاته، وإنما يستوجب تأويله ضمن السلسلة، كتجربة ذات معنى في حالة حركة بين مراحلها التى تترابط بخيط لامرئى في الظاهر. وتبين المشاهدة للوحة من مسافة قريبة التفاصيل التى صنعتها الفرشاة. أما الرؤية من المسافة الأبعد فتناسب مهمة اكتشاف التصميمات المبالغة في الابتعاد. وتتشكل ألأنساق في العمل الفنى الانطباعى مع إذابة الحدود الفاصلة بين الثنائيات المتناقضة على نحو مباشر مثل: انطباعى في مقابل غيرعاطفى، أو الأرضفى مقابل الماء، أو العمارة في مقابل الأشجار، أو الطبيعة في مقابل البشر، والمداخن في مقابل السحب.
وعلى خلاف الانطباعيين اكتشف "سيزان" Cezanne تقابلاً مع "مازاتشو" Masaccioحينما أراد أن يكون أشد وضوحاً أمام الطبيعة، ولكى يضفى على لوحاته ذلك التألق النبيل الذى يليق بلوحات المتاحف العالمية. لقد منح "الطبيعة الصامتة"فوق المنضدة القدرة على الحياة الأبدية، وأضفى عليها طابعاً خاصاً يذكر بروائع فن القرن السابع عشر، وكأنه خلق من تفاحاته الجميلة قديسين، كما أن للطبيعة الصامتة مغزى وجودى.ولقد كان" بول سيزان"Cézanne Paul (1839-1906) يفكر بالرسم، غير أن تفكيره من النوع التأويلى والتخصيصى وليس تعميمياً. وبطريقته قرب الفنان النموذج التصويرى من الكرة والمكعب. وفى الحقيقة أن الأشكال الهندسية هنا تشبه فقط الأشكال التصويرية، دون أن تمثلها. كما لا تشتق بنية العمل الفنى من المشابهة مع شىء خارجى، وإنما تستخلص من المشابهة مع العالم الداخلى للفن ذاته، مثلما تستخلص من الثنائيات المتناقضة هنا : البرودة/ الدفء، الخوف/ الأمان، الغرابة/ الألفة، البعد/ القرب ، الصعود/ الهبوط.
ومن المؤكد أن التفاحات او البرتقالات في لوحات"سيزان" مثل لوحة "طبيعة صامتة، ستائر إبريق ووعاء من الفاكهة"(1893-1894)،لا تثير الرغبة في الأكل، وإنما تخلق عالمها الشكلى المستقل. فلا يرسم الفنان جمال الطبيعة ، وإنما يذيب الطبيعى في الثقافى. ويتطلب التوصل إلى معنى العالم تجاوز ثنائية الذات /الموضوع، وتجاوز ثنائية الإنسان/العالم . وتصبح المادة هى أساس كل إدراك، كما تمثل المادة النافذة التى نطل منها على الأشياء عندما ترى وتلمس. والحقيقة أنه لا سبيل للكشف عن قوة الشكل إلا بتشويهه، لأن أساس الرسم هو التشويه لاستجلاء القوة غير المرئية، ولكشف النقاب عن "المرئى" إنطلاقاً من قوى غير مرئية. هكذا رسم "سيزان " قوة نمو االفاكهة ونضوجها في لوحاته للطبيعة الصامتة، فلم تعد شيئاً جامداً، بعد أن نفذت عبرها انفعالاته العنيفة، وبعد أن أعاد من خلالها صياغة العالم. وبعد أن اكتشف القوى غيرالمرئية في الأشياء، حولها بالرسم إلى قوى مرئية، وكأنت الطبيعة قد دوى رنينها في داخله.
وتتوقف قوة اللون على درجة سطوعه وحيويته، وهو يبزغ وسط الرماديات المتوهجة. وليست التفاحات في لوحات "سيزان" سوى ذريعة لإبداع اللون والنور. ولا يهم الموضوع بقدر أهمية الواقع البصرى أو الظاهرة التشكيلية باعتبارها لوناً ونوراً. ويتصارع الفنان ضد المحاكاة لأن اللوحة ليست حكاية، وليست تأريخاً لحدث، أو تمثيلاً لشىء. ويتحدد عمل الخط في حذف ومحو كل أثر تشخيصى، وبذلك تمثل التفاحات شكلاً قبل أن تكون تفاحات. والموضوع المرسوم لا يهم، إذ أن خاصية الرسم لا تكمن في كشف المرئى، بل في إماطة اللثام عن اللامرئى. وما تراه العين تحديداً هو علاقات القوة غير المرئية المضمرة خلف الموضوع، والتى تخترق العمل الفنى وتنفذ إلى ماهية التشكيل.وقد هيمنت الروح الرومانسية على" سيزان " بحبه للطبيعة وبتقلبه السريع بين الأمل واليأس، وبين الحب النبيل والأحلام. لقد كان حساساً ومنعزلاً وعنيداً .واستبد به الشك في مقدرته على أن يكون رساماً، واستخدم مع" الانطباعية" الألوان المشرقة والمضيئة مثل "مونيه" غير أنه ازداد إلحاحاً وعناداً. وبدلاً من تسجيل انطباعاته وليدة اللحظة أخضعها لنظام صارم، مع محافظته على نضارتها. ويتمثل العنصر اللامرئى في فنه في تبسيطه للأشكال الطبيعية، وبأسلوب تتجاوب فيه المستقيمات والزوايا مع المنحنيات والألوان الحمراء مع الخضراء والبرتقاليةمع الزرقاء، بناء على فكرة ارتكاز الطبيعة على أسس معمارية-هندسية. ووفقاً لمنظور يقوده العقل، ويتحكم به باستخدام المستويات المتداخلة، بدلاً من اللجوء إلى المنظور التقليدى .
وفى لوحة "لاعبو الورق" التى رسمها "سيزان "(1838-1906) تحدد خطوط الأرابيسك اللاعبين وأيديهم المتماسكة وانتقال هذه الخطوط من لاعب لآخر بحركة دون انقطاع . ومع ذلك فإن كل ما في اللوحة يرتكز على طاولة راسخة بشكلها الهندسى الثابت. ويتمثل المعنى الرئيسى للوحة في الاستغراق والانشغال، أو في الهدوء القلق والانعزال. وتتفق كل هذه المعانى مع التفسيرالجمالى للعمل الفنى، غير أنها ليست الوحيدة، إذ أن هناك تفسيرات أخرى يمكن قبولها. ويدخلنا الفنان برسمه في وجود العالم الحسى، حيث تتجلى الأشياء قبل تكونها كموضوع معرفة نظرية. ويمنح الصورة وجودها الذاتى، وليس كتقليد للطبيعة. ويشاهد الناس في العمل الفنى أكثرمما يروه في الواقع، حيث تخرج الروح من العين لتذهب إلى الأشياء. لأن ما وراء المرئى موجود خلف أو بعد الأبعاد التى يراها الناس، واللامرئى ليس إلا الوجه الآخرللمرئى.
وكانت المناظر الطبيعية التى رسمها "سيزان" مثل"جبل سانت فكتوار"(1898-1902) عبارة عن تمثيل شهوانى، أو كناية عن تميمة سحرية دون تمثيلها. إنه يربط كل شىء بذات بدائية. ورغم عدم اكتراث الفنان بالبدائية أو بالسذاجة، فإن الطبيعة البدائية التى هى أصل قوة إبداعه كامنة في نفسه، ومنحت فنه المعنى. إذ أدرك الفن من خلال مزاجه الجسور، الذى منحه المقدرة على الرسم بطريقته الخاصة، وتبعاً لرؤيته ومفهومه، بل لدافعه الداخلى البدائى، حتى قويت ضربات فرشاته تقوست خطوطه. وتشكلت العلاقات الثنائية المتزامنة في نسق الرسم ، مثل : قوة الأسلوب في مقابل المزاجية الغامضة. وأصبح "المنظر لطبيعى "بفرشاة "سيزان" لايعكس مشاعر ومعتقدات الفنان وعالمه الباطنى فحسب، وإنما يكتشف وعيه الذاتى من خلاله، ليسمح له أن يعبرعن ذاته، ويغنى لحنه الخاص مع الاحتفال بفعل التجديد. ودائماً كانت لوحاته بمثابة تمثيل لمعنى الصراع الرهيب من أجل اكتشاف النظام الجديد لرؤية جوهر العالم المادى من وجهة نظر عاطفية.
_______________________________________________________________________________________________________________