اللامرئي سر جمال العمل الفني
بقلم : د. محسن عطيه
هناك قوة تجعل الفنان «مسكونًا» بروح الجمال. هذه القوة، غير المرئية ، هي أداة التعبير عن ذات الفنان. ومن المفترض أن التعبير الفني هو «حدس» لا يحتاج لدليل، حيث يكشف الواقع مرئي، بطريقته خاصة، لإعطاء هذا الواقع حياة جديدة، علامة تتغلب على عنصر الزمن بتكثيف الصورة التي اختارها بصر الفنان،لترى من خلال شخصيته. حيث يرتقي الفنان بفنه إلى عالم اللامتناهي ، ويحافظ على عمق تجربته ، وهذا عمق إدراكي عاطفي، وفي الوقت نفسه، يجلب حقيقة بصرية عاطفية. بهذه الطريقة، من خلال الفن، يتعلم الإنسان شيئًا عن نفسه.«ان الرؤية المعتادة تعجل من زمن تأمل العمل الفني، بل وتقهرالألفة الحافز الجمالي. وإذا رغب الفنان في إثارة إحساس المشاهد ومتعته، فإنه يضيف إلى صور الأشياء أبعادا فنية وجمالية، والتي كانت ستبدو بدونها رتيبة، وتبعث على الملل. ويعمل الفنان بكل وسائله من أجل أن يطيل زمن رؤية المشاهد لعمله الفني ، ويعمق هذه الرؤية ويجددها ،فيبحث عن طريقة تعبير متفردة . فمهما كانت الموضوعات التي يتناولها الفنان في أعماله الفنية شائعة وعادية، فسوف تتحول بفضل الأساليب المستحدثة إلى إبداعات فريدة، غير أنها تحيا في إطار تقليد راسخ.»[1]إذ بدافع من الغريزة يختار الفنان ما هو متواضع ، فيكشف عن عمقه. ويمنحه القدرة على الإدهاش. فقد تكون الجوانب الأكثر أهمية من الأشياء ، مخفية بسبب بساطتها وألفتها. عندما يمزج ذاته مع الطبيعة ، ويوحد بين المرئي واللامرئي . وكان " بانوفسكي" قد قدم في عام 1953 دراسة بعنوان التصوير الهولندي المبكر ، توصل فيها إلى أن ثقافة العصور الوسطي كانت تتعامل مع الرموز على أساس أنها كائنات حقيقية."[2]وقد يكون الجانب اللامرئي من لوحة فنية أو تمثال أو مقطوعة موسيقية تحويل الشعوربـ «القلق» أو«الإحباط» أو «الألم»، إلى احتفاء به كجزء من الحقيقة الإنسانية. على اعتبار أنه بواسطة اختبارالألم فى سكينة ورضا يتحرر الإنسان من مشاعر الغضب والإحباط الناتجة عن مواجهة المحن والمعاناة فى الواقع، وما ينجم عنها من غموض والتباس. وقد كان ذلك هو ما هدف إليه الفنان أوجين ديلاكروا [1798-1863]) برسمه للوحته الشهيرة بعنوان وفاة أوفيليا[1853] ويمثل الجانب اللامرئي من الصورة،
ذلك هو الرغبة في «الاحتفاء بالمشهد المروع للوفاة كجمال خلاق وساحر وغريب، بل وأنيق ومعقد. وغالبا يواجه الإنسان الموت والدمار والشر من الحقائق المزعجة والمؤلمة، على أنها حقائق جليلة. وتصبح الحقيقة [المعاناة والألم] جمالية بتقبلها، وليس بتجاهلها، لأن فى تقبلها إيقاظ للإنسان ليواجه القدر.»[3] وغالبا يكون هدف الفنان الذي يصور غير المرئي هو تعميق و توسيع وعي العين والرؤية الأكثر حساسية التي تمنح المشاهد طاقة معرفية، تكشف عن نفسها فيهم وتوقظهم. وبفضل هذا المحتوى الخالد المخفي في هيئة عمل فني ، يكشف الفنان عن أشياء غير ملموسة لا يراها الشخص العادي، ويجعلها قريبة. وقد ينشأ الضمني ببساطة من طبيعة الوجود. ويتبين جوهر وهدف العمل الفني من خلال مقارنته بالتصوير الفوتوغرافي.ويزعم مؤرخ الفن الألماني "هانز بيلتينج " Hans Belting (1935-2023) في كتابه : الصورة والحضور.. تاريخ الصورة قبل عصر الفن،" أن التناقض في الصورة الدينية يكمن في جعل غير المرئي مرئيًا". [4]
وكان بحث «بيلتينج» يتمحور حول مسألة دور «صور العبادة» في إحداث التفاعل بين الدين والجماليات والأداء الطقسي، وتناول العلاقة بين الفضاء الحقيقي والخيالي مما له تأثيره في منح الصور التي تشكلت جماليًا في مادة مهمة الوسيط، الذي يستحضرالمعنى. حيث تتداخل هذه المحاور وتترابط بطرق مختلفة. وفي صور القديسين في أيقونات العصور الوسطى، كان التركيزعلى المصدر الخارق للطبيعة للصورة. في حين تتخذ الأيقونات أشكالًا تخضع لمصطلح موحد.ويستخدم في تفسير الصورة بلاغة الإشارة حيث يتداخل الدال والمدلول. كذلك يحدث في «الفن الحديث» الارتباط بين العالم الحقيقي والفن على مستوى ثنائية النهج المادي والروحي. حيث الاستراتيجيات الرمزية و الاستعارية و الاختزالية التي يمكن ربطها بموضوع تمثيل غيرالمرئي. أما الشكل في الفن التجريدي فهو بمثابة تمثيل لما هو غير مرئي للعين . مثلما في اللوحة التي رسمها« محسن عطيه» بعنوان «في الركن البعيد»[2021] فإن الشكل هو تعبير عن المحتوى الداخلي، أي تحقيق شكل مباشر لتمثيل عالم الأحاسيس . والشكل باعتباره تمثيل لقوى غامضة وحامل لمشاعر الفنان فمن خلال الشكل فقط يمكن الشعور بالقوى السرية، لغير المرئي. وبالتالي، يمكن قبول عمليات الاختزال في «الرسم التجريدي الحديث» كتمثيل رسمي للإدراك الروحي، ويتم تفسير الأعمال من خلال نظرية الفنان. وتمثيل غير المرئي لبعكس الطاقة الذاتية مثل «اهنزازات صوتية كتقنية روحية». وفي مقالته التي نشرها بعنوان:« مقدمة لجمالية جديدة» [1949]كتب الفيلسوف الفرنسي «جان فرانسوا ليوتار» Jean-François Lyotard (1924-1998) عن قدرة الفن الحديث على تقديم غير المرئي وحدد طبيعة ذلك الحضور ، من خلال فكرة «أن الفنان التجريدي لا يربط عمله بالزمن، ولكن يربطه بـالإحساس.لإظهار أن هناك شيئًا في الرسم الحديث يمكن تصوره ولا يمكن رؤيته أو جعله مرئيًا.»[5]
وبوسع الفنان أن يمنح غير المرئي في فنه صورة مرئية بالاستعانة بمبدأ الاختزال. حيث ترتبط تقنية الاختزال في «الرسم التجريدي الحديث» وفي الرسم بتقنية الحقول الملونة بالتعبير عن غير المادي وغير المرئي باستخدام نظرية «المعنى الإيحائي» للعمل ، لشحذ الشعور بأن غير المرئي موجود. وفي «الفن المفاهيمي» نجد مصطلح الفن غير المرئي، وبالتالي ربط مصطلح الفن غير المرئي بمصطلحات «المفاهيمية الصوفية» . وقد استخدمت في «الفن المفاهيمي» الأشياء الجاهزة لتعزز مفهوم «الفن كفكرة». و بدلا ًمن التركيز في القضايا العقلية "«ركز الفنان ، على الجوانب الماورائية من العمل الفن، وبذلك كاد أن يصبح «الفنان مابعد المفاهيمي» متصوفاً أكثر من أن يكون فناناً عقلانيا،وفي هذه الحالة يستطيع التوصل من خلال عمله الفني إلى استنتاجات لا يستطيع المنطق الوصول إليها.»[6]ولأن الفن يأتي من من مكان عاطفي عميق بداخل الإنسان، لذلك يصبح الإبداع هو السبيل إلى اكتشاف الذات وفهمها.
_____________________-
المراجع:
1-محسن عطيه: اكتشاف الجمال في الفن والطبيعة عالم الكتب، القاهرة ،2005،ص 140.
2---------: التفسير الدلالي للفن، عالم الكتب، القاهرة ، 2007 ، ص 21.
3- -------: الجماليات ...لماذا؟ فى الفن الحديث ومابعد الحديث، عالم الكتب، القاهرة 2020،ص 18.
4-Likeness and presence : a history of the image before the era of art / ranslated by Edmund JephcottHans Belting , .translated by Edmund Jephcott , University of Chicago Press, c1994,p59
5-LYOTARD, Jean-François, What is postmodern, translated by K. Jancin, Belgrade, KIZ Art press, 1995.p: 22
6- محسن عطيه : الفن المعاصر .. ما هو؟ المفاهيمية ومابعد المفاهيمية، عالم الكتب، القاهرة2022،ص227& 228.