الفن و الصنعة

بقلم:د. محسن عطيه

التعريف

انية فخار نقادة

ظل «تعريف» أرسطو للفن كصنعة حتى ا«لقرن التاسع عشر» بينما رأى إيمانويل كانط Immanuel Kant [1724-1805] أنه ليس من الفن توظيف مهارة التصنيع فى إنتاج «عمل فني» وفقاً لمخطط معد سلفاً، ومن أجل الاستخدام النفعي وليس بغرض الاستمتاع ، إذ المفترض أن يكون غرض الفن هو المتعة لأنه يخاطب الإحساس ويكون تأثيره على الإحساس هو معيار الحكم على جماله. أما الفيلسوف الإيطالي بينيديتو كروتشه Benedetto Croce[1866- 1952] فيصرح بأن إبداع الفن يعتمد على الحدس وعلى التصور الخيالي و الإحساس أولا ، ثم على معالجة المادة ثانياً، بينما الصنعة فأساسها معالجة المادة في المقام الأول. لأن المادة في المنتج الصناعى تخضع لشكل المنتج ويفرض التخطيط عليها، أما«العمل الفنى» فلا تكتفى فيه مهارة الأداء وحدها، بل أنه ليس شيئا مصنوعا تبعا لغاية «نفعية» معينة، وإنما ابتدعه الفنان بغرض إحداث ‹أثر إنفعالي› أو ‹نفسي› أو أو ‹حركي› أو ‹مفاهيمي›، أو بغرض ‹الإمتاع البصري›.وتتضمن الصنعة بمفهوم القرن التاسع عشر «وجود اختلاف بين الوسيلة والغاية، بحيث يدرك كل منهما بوضوح بوصفه شيئاُ متمايزا عن الآخر، وإن كان بينهما صلة.» [1] كما تتضم تفرقة بين التخطيط والتنفيذ. أما الرسوم على جدران ‹كهوف العصر الحجري القديم›، مثل كهف ألتاميرا في إسبانيا فهي تدل على قدرة ذات درجة رفيعة على الملاحظة والتعبير التجريدي، وعلى تطور الحساسية الجمالية والكفاية الوظيفية. وهذا يعني «أن التقنيات تستقى من الإنسان، في تفاعله مع كل جزء من البيئة، وتستغل فيه كل قابلية للاستفادة القصوى من طاقاته البيولوجية والبيئية.»[2] وبفضل عقل الإنسان النامي تمكن من بناء أشكال ثقافية ( رمزية) مناسبة. والعمل الثقافي يأتي في الأولوية بالضرورة، قبل العمل اليدوي، فهو العمل الذي يرتبط بصنع الأدوات والعدد على نحو أبعد من عمل اليد والعضلات والعين. وهو يتطلب سيطرة أو تحكما من جمبع وظائف الإنسان البيولوجية، بما في ذلك أعضاء جسمه وعواطفه ونشاطاته وأحلامه.

محراب من مدينة قونية التركية.
.محراب من مدينة قونية التركية.

إبدعات فنية تجمع بين الجمال والوظيفية


وعلى عكس هذا التمييز بين الفنون والحرف الذي يفترض أن الغرض من الحرف نفعي بينما الغرض من الفن الاستمتاع الجمالي والحسي كعمل فني ، نلاحظ أن "آنية الفخار" التي ترجع إلى عصر نقادة الثانية ( مصر -3450-3300ق.م) تجمع بين الغرضين [الجمال والوظيفة ]، إذ أن الجمال يتمثل في تناسب أجزاء الآنية وحيوية تأثيرها العاطفى والخيالى.«الأواني التي زينت سطوحها برسوم وصور بلون أسمر ضارب إلى الحمرة»[3] والآنية بذلك تعد عملاً فنياً يرتقي إلى مستوى «التحفة الفنية» بمظهرها الجذاب وتأثيرها المعنوى وتجسيدها لفكرة. ولأن الإنسان فى العصور المبكرة كان يحصل على متعته أكثر نقاء ومباشرة وبساطة، فلذلك لم يفصل ‹الأوانى› و‹الملابس› و‹الحلى› عن فنون الرسم والنحت. وقد ساهمت «الفنون النفعية» فى تأدية الطقوس قبل أن تتحول إلى فنون للاستمتاع. ورغم الهدف النفعي للآنية في تأدية «الطقوس» إلا أن تأثيرها الجمالي كان أكثر أهمية. ورغم أن معرفة الوسيط ضرورية للحرفة، ويمكن اكتساب معرفة الوسيط من خلال «التجريب»، إلا أن العديد من القطع المصنوعة يدويًا تتمتع بجمال لا يمكن إنكاره وبتقنية غيرعادية، ومنها ‹المنسوجات›، و‹السيراميك›، و‹المجوهرات›، و‹السلال ›، وقائمة لا نهاية لها من الأشياء الرائعة الأخرى، بما في ذلك القطع الفريدة من نوعها، التي لا تُمنح نفس القيمة الاجتماعية والاقتصادية المخصصة للقطع التي تعتبر من «الفن». والحرفة في أبسط أشكالها، هي معالجة المواد من خلال المهارة والفهم، ولكن أيضًا إذا تُركت المواد للتلاعب بنفسها، فيمكن أيضًا أن نطلق على هذا شكلًا من أشكال الحرفة، فإنها فن العملية. وتتطلب معالجة المواد فهمًا للوسيط من قبل الحرفي، وتتمثل في الأفعال العملية، مثل: اللف، والثني، والطي، والتمزيق، والتقشير، والفصل، والإزالة، والتبسيط، والخلط، والرش، والعقد، والسكب، والتطعيم، والتعليق، والتجميع، والنثر، والتغليف، والإحاطة، والحفر، والربط، والنسج، والضم، والتوسيع، والتعديل، والتقطير، والمحو.. كذلك ولأن «المادة» في المنتج الصناعي تخضع للشكل، ويفرض عليها «التخطيط» فإنها تفتقر من وجهة نظر فلاسفة الجمال مثل كروتشه لعمل ا«لخيال» و«الحدس» ولا نعكس أثرا معنويا. ولذلك فإن مهارة الأداء لا تكفي لإنجاز عمل فني، بل لا ينبغي ممارسة الفن تبعا لهدف نفعي، وإنما لإحداث أثر «انفعالي» أو «نفسي»، إضافة إلى «المتعة البصرية». وبينما استبعد كروتشه المنفعة من «تعريف الفن»، ليعطي الأولوية للاستمتاع الجمالي في مقابل الوظيفة. نجد على عكس تقليل دور الصنعة والوظيفية في الفن، هناك المقرنصات في محراب مسجد «قونية» بتركيا، فرغم أنها تؤدي وظيفة محددة ضمن مكونات المسجد في إطار العقيدة الإسلامية، فهي في نفس الوقت، ليست مجرد ‹زخرفة جميلة›، أو ‹تصميم معماري› بارع الدقة من الحنايا والعقود، أو صناعة قاشاني متطورة، إنما هي عمل فني جميل ويعكس معاني روحية. وعلى خلاف التفكيرالتقليدي الذي يستبعد «القيم الوظيفية» و«الأغراض النفعية» من العمل الفني،عثر الفنان في تشكيل «المقرنصات» الذي يشبه خلايا شمع العسل السداسية، أو شكل النسيج العنكبوتي، على صورة تجسد معنى «الكمال الإلهي» و«القدرة الإلهية»، على النفوذ إلى جوهر الحياة على الأرض وفي السماء بطريقة مجازية.ونفس المبدأ ينطبق على الموقف من قناع الأنياب المستخدم في مراسم عملية تفتيش عن السحرة مصنوع من الخشب، من الجابون، ويرجع إلى القرن التاسع عشر ، فهو منحوتة تتمتع بجاذبية جمالية كعمل فني وفي نفس الوقت له قيمته الوظيفية في تحقيق التأثير المخيف. وهو يثبت حقيقة أنه إذا عجزت الكلمات عن وصف الخوف، يصبح الفن أقدرعلى التعبير عنه.

الباوهاوس-الفنون والحرف

كرسيكرسي باوهاوس بريور

وهنا يمكن طرح التساؤلات التالية: هل المنتجات الحرفية المستخدمة في الحياة اليومية تعد أعمالا فنية؟ أو هل تعتبر المنتجات الصناعية [الملاعق والأكواب والأواني والسيارة والكرسي والأقمشة] أعمالاً فنية جميلة ؟، أوهل يمكن مقارنة جمال «كرسي» أو «ملعقة» بجمال «لوحة» أو «تمثال»؟ وما هي القيمة الوظيفية للوحة أو للتمثال؟ . وماذا عن الأشياء التي تعد فناً، ولا تتمتع بأناقة. وتفترض المناقشات الجمالية التعرض لقضايا «معرفية» وأخرى «نفسية» أو ‹عاطفية›، ويتوقف الفهم في هذه المناقشات على مستوى الخبرة الحسية، وعلى القدرة على التحليل والحدس. وبالعودة إلى التاريخ نجد أنه خلال "العصور الوسطى"، كانت كلمة "Artista " تعنى «الحرفي»، وفى تلك العصور قسمت الفنون إلى فنون «كبرى» وأخرى «صغرى»، بينما في «القرن الخامس عشر الميلادي»، أصبح التركيز على أهمية المهارات الفكرية للفنان، بدلاً من المهارات اليدوية للحرفي. وفى «القرن السادس عشر»، عززت الأكاديميات الأوروبية الفجوة بين الفنون الجميلة والفنون التطبيقية، واستمر ذلك بدرجات متفاوتة حتى يومنا هذا. وفى الحقيقة أن مبدأ التمييز بين التقنيات الفنية النفعية، على أساس أن طبيعة «الفن» جمالية، تمييز ينافي الحقيقة، إذ أن بينهما قدر مشترك لا يمكن إغفاله. ورغم ما تحقق في حركة "الفن الحديث" من محاولات لربط الفنون بالحرف من خلال برامج التدريس، وتنفيذ التصميمات في الباوهاوس[المدرسة الفنية التي نشأت في ألمانيا،ومهمتها الدمج بين الحرفة والفنون الجميلة]وكانت المبادئ التي بنيت عليها أيديولوجيات ومفاهيم وأساليب الباوهاوس الفترة من 1919 إلى 1933، نتيجة لعملية إصلاح تعليم الفنون التطبيقية في ألمانيا التي بدأت في عام 1898. وقد صاغت الباوهاوس نموذجًا تعليميًا يعتمد على نمط ورش العمل التي توحد الفنانين والحرفيين معًا في شراكة من «المساواة» و«التعاد»ل.حيث تتمتع المنتجات التي تنتجها ورش عمل الباوهاوس بمعيار يمكن استخدامه للأغراض الصناعية. ومن ومن الأفكار الرئيسية التي استندت إليها الباوهاوس في الفن والعمارة، التركيز على شكل المنتج بحيث يتميز بكونه «رصينا وعملياً وعصرياً» [4]ويراعى في الشكل العقلانية والتوحيد القياسي، والتبسيط، وروح العصر، والعمل الفني ، والوجود الداخلي الحدسي، والخبرة الذاتية ، والفن الجمالي الصناعي للآلةإلا أنه لم يكن هناك الكثير المشترك بين تصميمات الأشياء المصنوعة يدويًا، وتصميمات باوهاوس للأشياء ذات الإنتاج الضخم المستوحاة من النماذج الهندسية.وقد صرح فالتر جروبيوس في بيانه «مبادئ باوهاوس» [1925] عن أهمية تطبيق الوحدة بين «الفن» و«التكنولوجيا»، و«الشكل» و«الوظيفة» في منهجية التصميم: أولاً ينبغي تحليل وظيفة أو مهمة أي شيء. ثم ينبغي تصميمه وفقاً لطبيعته الوظيفية باستخدام "أساليب الإنتاج الحديثة والإنشاءات والمواد «لتحقيق غرضه المتمثل في أن يكون "متيناً واقتصادياً وجميلاً.»[5] ويشير فالتر جروبيوس أن هذه العملية غير التقليدية، ضرورية لإنشاء أنماط قياسية للاستخدام اليومي. أو بعبارة أخرى أعلن عن «المفيد» "«الجميل»" ، وهو أمر شائع في الفنون الزخرفية التي أعقبت حركة الفنون والحرف اليدوية البريطانية. وعلى هذا فإن الشكل الوظيفي يصبح جمالياً ـ مع تحول البحث عن طبيعة الأشياء أو مهمتها إلى بحث عن هندسة أفلاطونية مثالية أو على وجه التحديد، ترجمتها إلى أشكال هندسية. ومع ذلك فإذا كان الفن يتطلب مهارة لإنشاء أعمال نفعية، وفى نفس الوقت جميلة، فإن للحرف أيضاً غرض جمالي بالإضافة إلى غرضها الوظيفي، أي أن كل من الفنون والحرف قابل للتبادل، كما أنهما يشتملان على الأنشطة الإبداعية التي تتطلب مهارة وخيالًاً. ولهذا تعتبر الحرف من أنواع الفنون، طالما اشتملت على أنشطة إبداعية. ورغم ذلك، تميز التصنيفات التقليدية بين الفن والحرف، على اعتبار أنهما مختلفان. وعلى عكس ذلك كان يُشار إلى الفن حتى القرن السابع عشر، على أساس أنه يتطلب مهارة وإتقان، ولم يتم تمييزه عن الحرف أو العلوم. فكان يشترط في «الفنان» بالإضافة إلى كونه مبدعًا وخياليًا ومعبرًا، أن يظهر مهارة فنية، وأن تخدم الحرف اليدوية الغرضين الجمالي وكذلك الوظيفي.

مان راى الهدية ، 1921

الأشياء جاهزة الصنع لها معناها وجمالها

أما الفنان مان راي Man Ray [1976-1890] الذي عرض سنة1921 [[مكواة] كتب تحتها الهدية، كان قد عثر عليه صدفة، فوجدها تتمتع بطاقة كامنة تحفز على استدعاء «صور الذاكرة»، وداعبت خياله كصورة فنية لها أبعادها الإنسانية. فعلى طريقته يمكن التركيز في أنشطة الفنون على دور الخيال في تحويل صور الذاكرة التي تستدعيها الأشياء «جاهزة الصنع» في الواقع إلى حقائق فنية، وبذلك نضمن تحقيق الإتحاد المدهش بين الصور بدرجة «هجائية». إذ ما قام به «مان راي» ليس أكثر من مجرد لصق المسامير ونقش عنوان العمل [هدية] وتوقيعه. غير انه سلب من المكواة «وظيفتها المعتادة وهويتها»، ليسمح بالتطلع إليها كشكل ورمز، عندما أضاف المسامير، حيث أدهش المشاهد الذي يفترض للمكواة أن تواجه الأقمشة بسطح أملس، أما «مكواة» مان راي فإنها توحي بتمزيق القماش. والفنان هنا ببساطة يعرض المكواة كأداة منزلية معدلة كعمل فني. لقد أصبحت بعد إضافة المسامير النحاسية، عديمة الفائدة نفعياً، إنما منحت «معنى تهكمي»، يشكك في تعريف العمل الفني، ويمثل احتجاجاً موجها «ضد جماليات الحداثة».

تحديث تعريف الحرفة

فيليدا بارلو البيت المقلوب2 "(2012)
محسن عطيه الحياة كالحلم 2021

جمال النفايات

وعمل الفنانة الانجليزية فيليدا بارلو(1944-2023): مثل البيت المقلوب2 [2012]عبارة عن مزيج من المرح والترهيب. إن الألوان التي رسمت بها منحوتاتها، والتي تشبه إلى حد كبير الألوان التي تستخدمها الأطفال، والتي تشير إلى الألعاب، تتناقض بشكل عميق مع المواد الصناعية وحجم أعمالها. إن منحوتاتها ترتفع فوق المشاهد، ولقد لعبت بالكتلة والحجم والارتفاع مما يخلق توترًا في أشكالها. إن أشكالها تعطي انطباعًا بأنها ثقيلة وخفيفة كالهواء في نفس الوقت. عندما يكون المرء في حضور منحوتاتها، يفقد إحساسه بالموضوع ويدخل في بيئة. لم تخف بارلو عملية اختيارها للمواد عن المشاهد، بل كشفت عن كل التفاصيل. هكذا يجب تحديث تعريف الحرفة المعاصرة لمواكبة عالم الفن، لأن الحرف تتغير عبر الزمن، وهذا يؤدي إلى السؤال عن أين تتجه الحرفة الآن؟ فإذا أخذنا فكرة فمن الممكن أن نجد مكان المادة في الحرفة المعاصرة. حيث يعالج الفنانون المعاصرون باستمرار قضايا المادية، ومن الضروري فهم إلى أين تتجه. ورغم أن فيليدا بارلو تتعامل مع قضايا مادية، فإنه لا يُنظر إلي عملها على أنه حرفة، فإن علاقتها بالمواد والعمليات التي تمر بها تمنح نظرة ثاقبة حول كيفية التعامل مع المواد غير التقليدية في سياق الحرفة، وعلاقة الفنان أو الحرفي بالمواد. وعندما نشهد الحجم الهائل لمنشآتها النحتية، فإن المواد تدعو المشاهد إلى القيام برحلة مادية حول الأشياء ومشاهدتها من جميع الزوايا. ويسمح الحجم الهائل للمنحوتات بتجربتها بدلاً من مشاهدتها؛ حيث يمكن رؤية جزء فقط من النحت في وقت واحد. و يواجه المشاهد هياكل عند مدخل المعرض، وللمرور من خلالها يجب عليه أن يسير تحت التمثال الذي يبدو غير مستقر. عندما يقف المشاهد تحتها، يشعر بالإثارة، حيث تم تصميم الهيكل بحيث يبدو وكأنه يمكن أن ينهار في أي دقيقة، ويمكن للمشاهد أن يشعر بالطاقة الكامنة الموجودة في هذه المواد. هذا الاستخدام للوسائط التي يمكن التخلص منها يجلب التوتر داخل الأشياء بهذا الحجم. يتم ترك جزء من المنحوتات مكسورًا حتى يتمكن المشاهد من رؤية ما يتكون منه الداخل. هناك جمالية معينة للقمامة في جميع أنحاء المعرض والتي تتناقض مع الجدران الجميلة في المعرض. إن أكثر المنحوتات الهيكلية في المعرض هي نوع من «الألغاز»، ألواح من الخشب يبدو أنها ملطخة بالطلاء عن طريق الخطأ، تبدو وكأنها تركت في مرآب الرسامين والديكور لفترة طويلة من الزمن، مثبتة معًا. إن استخدام بارلو للمواد الرخيصة في ممارسة كانت تتم تقليديًا باستخدام البرونز أو الزيوت، يسلط الضوء على التغيير الذي طرأ على «الفنون المعاصرة» فيما يتعلق بقيمتها. وبعد «جواهز»مارسيل دوشامب(1887- 1968) سعى الفنان ما بعد الحداثي إلى توسيع العملية الفنية وتوسيع مفهوم الرسم، بالكشف عن إمكانيات التعبيرالمفاهيمي، وعن المعنى الذي يوجد بشكل فريد في التداخل بين الوسائط ، ويوجد وراء السطح، حيث يجري تبادل التلاقح بين الرسم والسطح الجاهز. والفنان برسمه فوق السطوح الجاهزة يلتقط طاقة وفورية، يصبح الرسم معها متعدد الطبقات، ويهتز بالتوتر البصري ، فيجمع بين طبقاته الصور والعمق البصري والذاكرة والخيال والتجريد، بحيث تطمس الحدود بين ما يعتبر "طبيعيًا" في مقابل ما يعد"«اصطناعيًا»" لقد توصل دوشامب إلى أن للأشياء التي تستخدم في الحياة االيومية قوتها الملهمة. و «أن الأعمال الفنية التي تشتمل على أشياء حاهزة الصنع ، تفترض عدم اشتراط إظهار المهارة اليدوية في إنجاز العمل الفني ، فإن عمل الاختيار من بين احتمالات تبعاً للصور المجازية التي تبلورت في الرؤية الفنية.»[6] كذلك نعثر على جذور لفكرة استخدام السطوح الجاهزة في لوحة الحياة كالحلم(2021) للفنان محسن عطيه ، فيما صرح به النحات الانجليزي هنري مور وكان مشغله يحتوي على أشياء جاهزة بقوله:"«أضع كل شيء كنت قد جمعته، بعض حصى ، أشياء جاهزة وغير ذلك، كل ما يساعد على توفير جو لبدء العمل.»[7] لقد أراد محسن عطيه أن يعيد اكتشاف الرسم، وإعطائه معنى جديدًا، أي إعطاء فكرة الرسم، وليس الحرفة، ميلادًا جديدًا مع كل لوحة. والاعتراف بزوال الرسم كحرفة وولادته كفكرة، بالاعتماد على الصدفة كبديل للحرفية. وكان هذا التخلي عن الرسم كحرفة يدوية كان قد عززه دوشامب، إذ «بدلاً من العمل اليدوي، و لمسة الفنان، والأسلوب الشخصي، اتخذ الفنان الجواهز.»[8]وبينما في الجماليات الكلاسيكية كانت وظيفة التأليف مزيجاً من المهارة والثقافة، حيث يتداخل الشكل والمحتوى معاً من خلال الحرفية اليدوية، كان الفنان هو الصانع، أما وظيفة المتلقي فهي التأمل، و التذوق، وأن يقيم درجة التميز في المهارة والثقافة التي أظهرها الصانع. وظل الصانع (اليد) "سلبياً"، بقدر ما كان يطيع ببساطة و"تلقائية"، أوامر العين في التمييزات الجاهزة التي توفرها مخططات الألوان المصنعة. وعلى خلاف ذلك تزود خشونة سطح اللوحة المجهز وتجاويفه وبروزاته الخيال بصور، فيضيف الفنان إليها لمسات طفيفة، بعد أن يعدل صورة ذاكرته عن «المنظر الطبيعي»، لتلائم طبيعة سطح اللوحة الملطخ بالبقع والعجائن والألوان المختلفة. وبالطريقة نفسها تبرز الصور مثل، جبال وصخور وأشجار وبشر وطيور ووديان، بتخطيطات، امتزجت بنظم الصوت مع الحركة فى تشكيل الصورة الفنية.ويمارس الفنان لعبة الخيال ليحول سطح اللوحة المجهز مسبقاً بقدرة سحرية إلى صور، أى تحويل الصفات الطبيعية للسطح، حيث تتدفق الخطوط بحساسية وعاطفية، فتلهب الخيال، وتصنع وعيا بالشكل، بعد اختزال عنصر الزمن، وقد استحالت الخطوط إلى نغم. ولم تكن الحرفية ولا الصنعة، العنصر الأساسي وراء رسم لوحة الحياة كالحلم ، إنما العملية تتوقف على قدرة الفنان على الاختيار من بين عدة خيارات. وقد أعطي الفنان الأهمية للعمل على «السطح الجاهزة» بدلاً من الرسم على سطح خام ، ودون اتباع نهج محدد مسبقا لمعالجة المواد، فتمكن من الانفتاح على الصدفة، مستفيدا من الإيماءات الخيالية، والارتباطات الحرة. هكذا ساهم تفكيك السطح والبنى في لوحة الحياة كالحلم لـ محسن عطيه في تفتيت الصور والتصورات وفي إعادة التركيب. وبتجريب عمليات القطع والتمزيق والتغطية، والكشف والخدش والضغط وإعادة الترتيب، أنشأ الفنان روابط جديدة. ويستخدم الفنان الخامات المتنوعة من عجائن لونية وخيوط و أوراق ، مما كان له أثره في استدعاء التصورات الشكلية الشكل. وقد ذكر ياسر النعيمي أن الفنان محسن عطيه يرسم «بالطريقة ذاتها التي تصنع حركة السحب في السماء أو تشكل الأمواج، وهي تتلاطم على الشواطئ الرملية، وكان الفنان يختزل تأثيرات الضوء بمنهاج رمزي، وحقق طابعاً شفوفياً، كاشفاً عن أعمق الأشياء والموضوعات ومتنقلاً بالخيال من الجزئيات إلى التعميمات المطلقة، ومن السطحي إلى العميق الميتافيزيقي. وبالاختزالات الشكلية توصل الفنان إلى الكلي فأحاطه بالتحديدات ليوحي بالإيقاع الجميل.»[9] ويسمح استخدام الوسائط المتعددة بحرية التخيل وإطلاق العنان لاستلهام غير المتوقع كسبيل لإعادة اكتشاف وتطوير التراكيب والإيماءات. وهذه طريقة مثالية لاختراق حدود التقنيات وطرق الأداء التقليدية أو الثابتة للتوصل إلى طرق أكثر انفتاحًا وأقل تحديدًا. ويحتمل الأسلوب إمكانية تكرار عملية إعادة بناء التفكيك مرارًا وتكرارًا، كما يمكن تحريك الأجزاء ودمجها، وتجربة العديد من الاحتمالات المختلفة.

الإنسان هو مصدر التقنيات نظراً لمقدرته على الملاحظة والتعبير التجريدي، وبسبب تطور حساسيته الجمالية و تفاعله مع البيئة، وبالاستفادة القصوى من طاقاته البيولوجية والبيئية." وبفضل النامي يتمكن من بناء الأشكال الثقافية ( الرمزية) المناسبة. والعمل الثقافي يأتي في الأولوية بالضرورة، قبل العمل اليدوي، فهو العمل الذي يتطلب سيطرة أو تحكما من جمبع وظائف الإنسان البيولوجية، بما في ذلك أعضاء جسمه وعواطفه ونشاطاته وأحلامه.


********



_____________

المراجع:

1-روبين جورج كولنجوود: مبادئ الفن، ترجمة أحمد حمدي محمود، الدار المصرية للتأليف والترجمة1966، ص23.

2-ملفين كرانزبرج: التكنولوجيا والثقافة ، ترجمة محمد عبد المجيد نصار، مؤسسة سجل العرب، القاهرة،1975 ، ص249 ص253.

3-محسن عطيه : جذور الفن، عالم الكتب ، القاهرة،2004،ص37.

4-Hans Wingler . The Bauhaus ; Weimar Dessau Berlin Chicago. MIT Press Paperback edition, Massachusett, 1980, p.49

5-Gropius, W. “Grundsätze der Bauhausproduktion.” In Neue Arbeiten der Bauhauswerkstätten. Edited by W. Gropius and L. Moholy-Nagy. Bauhausbücher 7. Munich: Langen, 1925, pp. 5–8

6-محسن عطيه: التفسير الدلالي للفن، عالم الكتب ، القاهرة،2007،ص56.

7-فرانكلين ر. روجر: الشعر والرسم، دار المأمون بغداد 1990، ص57.

8-Calvin Tomkins, The Bride and the Bachelors, New York: Viking Press, 1968, p. 24.

9-ياسر النعيمي : التشكيلي محسن عطيه يجمع في أعماله بين الحقائق المرئية والفكرية ، صحيفة أخبار العرب الدولية، العدد 1127 28 ديسمبر 2003.