الفن التجريدي/التجريدية السريالية

بقلم د. محسن عطيه

من الممكن في الواقع تغييرالأذهان على نحو عميق فيما يتعلق بالفن، ولكن عادة ما يتطلب الأمر بعض الظروف غير الاعتيادية لإحداث هذا التغيير. مثل الظروف التى واكبت نشأة حركة "دادا" في الفن الأوروبى في أوائل القرن العشرين، وضمت الفنانين والشعراء والموسيقيين وكتاب المسرحيات، لتعكس نفورهم مما أسموه "القتل الجماعى" في الحرب العالمية الأولى. وقد أصبحت حركة دولية بحلول عام 1920، ولها تأثيرعميق على الفن في القرن العشرين ، وقد شارك الكاتب والشاعر الفرنسى أندريه بريتون الذى كان ناشطًا في مجموعة"دادا" الباريسية، في تأسيس السريالية. وكان للحركة السريالية في أوروبا تأثير ودور أساسى في ظهورالتعبيرية التجريدية، وحيث تعرف العديد من التعبيريين التجريديين على السريالية.مثل لوحة الفنان الإسبانى" بعنوان "طبيعة صامتة" (1913) للفنان الإسبانى "أماديو سوزا كاردوسو" (1887-1918) والتى تنتمى بأسلوبها لفن "الدادا" .

"طبيعة صامتة" (1913) للفنان الإسبانى "أماديو سوزا كاردوسو"

وعندما استخدم بعض الفنانين الدادائيين التجريد كوسيلة لمتابعة أهدافهم الدادائية، اكتسب الفن التجريدى زخمًا كوسيلة للتعبيرعن المشاعر الإنسانية والعالمية اللاواعية. كذلك استخدم العديد من التعبيريين التجريديين أسلوبًا ارتجاليًا يشبه الأوتوماتية النفسية، أو"الآلية التشكيلية "، لإقناع العقل بإطلاق عناصره الفرعية أو السابقة أو اللاواعية أو الارتجالات، وترتيب جميع العناصر في تكوين يأخذ في الاعتبار هذه الهياكل. و"الافتراض الأساسى لكل من "الآلية التشكيلية" و"النفسية" هو أن العقل اللاواعى هو المبدع الحقيقى ، الذى يجب إطلاق العنان لسلطته أولاً ثم إعادة تجميعها في نظام مقبول ")1)

ورغم أن التعبيريين التجريديين قد اختاروا الاعتماد على الآلية النفسية بطريقة تختلف عن طريقة السرياليين، إذ سمحوا للعفوية بدور في ممارسة العمل الفنى، إلا أنهم يشكلون جزءًا من السريالية، لكونهم لم يكونوا بحاجة إلى خطة دقيقة لأعمالهم الفنية، ولم يتدخلوا في لاوعيهم من أجل نقل مشاعرهم، مثلما فعل السرياليون. وعادة يرتب الفنان التجريدى/ السريالى عمله الفنى بعيدا عن السرد، لأن السرد يتولد ذاتيا من خلال ترتيب عناصر الصورة. وفى الفن الحديث اتخذت الحركات الفني مثل "الدادا" و"السريالية" و"التجريد" مكانة مهمة. و"لقد أعلت الحداثة من شأن الآلية والرمزية، ووصفت بأنها تمثل "إثارة الأعصابط ، وهى بمثابة تجميع لكل التقنيات الفنية من أنحاء شتى، بعد تهذيبها. وقد وصفها الشاعر الإنجليزى " وليم كارلوس"(1968بأنها مزيج من المستقبلية والعدمية ، من المحافظة والثورية، ومن الطبيعية والرمزية، ومن الرومانسية والكلاسيكية."(2) وإذا كان يكتفى المشاهد وهوينظر إلى شىء مألوف، بأن يتعرف عليه، فإن عليه القيام بانتزاع الموضوعات من إطارتها المألوفة ، بعمليات النتحريف والخروج عن القوالب، لكى يتمكن من إعادة اكتشاف القوة التصويرية للعالم وتكسبه أبعادا جديدة، وذلك من المبادىء الساسية للفن. ولقد أكد السرياليون على هذا المبدأ حينما دعوا إلى مبدا " بعث المدهش والغريب" .(3) ومن الملاحظ أن الفنان التجريدى / السريالى يمزج الأشكال المجردة مع مفهوم الأوتوماتية التي يعتز بها السرياليون. وغالباً في هذه النوعية من الرسم يصبح التمييز بين الشكل / الخلفية غير دقيق أكثر فأكثر . كذلك أسلوب الرسم الذى ميز الأعمال الفنية التى عرضها الفنان المصرى" محسن عطيه" في معرضه في قاعة إكسترا في الزمالك (2006) كان بين التجريد والسريالية فلم يكن الفنان يتقيد بسردن ويجعل فرشاته تتحرك بتلقائية وعلى سجينها حيث " تلتف التعرجات بسهولة أرابسكية ، وتتكثف التنقيطاتن وتتحول إلى بيئة عشوائية تنمو فيها التشخيصات العفوية الممتعة ، فتستعير من الحقل الذى نمت فبه طبيعته، والبداية تتشكل في الحالة الغامضة . وبالانقطاعات في السطح المتدرج تبرز العيون والأنوف، والأيادى المتشابكة..، فيتكشف التشبيه المجازى ، وتتركز قوة الواقع والشعور..، الواقع فوق الواقع .. يتولد فوق الواقع"(4)والفنان بهذه الطريقة يحتفى بالارتجال والنلقائية والصدفة كقوى سحرية. وعندما تكتسب الصورة أبعاداً خيالية و دلالة نفسية، تتكثف في عالم ما فوق الواقع. وعلى الرغم ، من صعوبة فهم هذه النوعية من أعمال الفن التجريدى على المستوى السطحى ، فإنها بقدر اندماج الفنان أثناء إنجازها في عالم يشبه الحلم في اللاوعى أن تحقق للمشاهد الإحساس بالطمأنينة أكثر مقارنة بالفن الواقعى، وبخاصة إذا ما تمكن هذا من الانخراط بالفعل في التفكير بجدية مثلما يحدث عند مواجهة المسائل الوجودية في الحياة. فدائما كان الفن هو الملاذ في ظل وجود التهديدات الوجودية وما يزال الشىء نفسه يحدث. ويبدو أن الفن التجريدى/السريالى على وجه الخصوص فعال لتحقيق هذا الغرض، إذ أنه بوسع الطبيعة المقلقة لمثل هذه الأعمال تخلق الشعور المريح بالتعالى. ،حينما تحرك تفكير المشاهد بعيدًا عن المخاوف والقيود ، وتخلق بدلاً من هذه المخاوف إحساسًا بالمعنى بعيد المدى. حيث دخول المشاهد في حالة تشبه الحلم ينتج عنها الإحساس بالمعنى.

وكان " خوان ميرو" (1893- 1985) قد ابتكر سلسلة من التقنيات والرسم التلقائى الذى يهدف إلى قمع السيطرة الواعية على العملية الإبداعية. وفى الرسم التلقائى ، يُسمح لليد بالتحرك بحرية ، بشكل مستقل عن التحكم العقلانى. و هو يحتفل في ممارست للفن بالصدفة ، وغالبًا ما يتم تحليل العمل النهائى وتفسيره على أنه مظهر من مظاهر العقل الباطن والنفسية. لم يكن " ميرو" يريد باسلوبه أن يحقق من التلقائى الحصول على معنى رمزى مثل السرياليين ، وإنما المعنى والشكل في أعماله يتحققان في وقت واحد من خلال إيماءات الفنان التعبيرية، حيث تستحضر الفكرة الشكلية ،فكرة شكلية أخرى ، ويبلغ الديناميكيةكل شيء ذروته في ىالأشكال والحيوانات والأشياء التى لم يكن لديه أى وسيلة للتنبؤ بها مسبقًا. أن فنه ليس سرياليا خالصاً ، أى لبي "فن اللاوعى" ،وإنما كان الفنان الذى قدم الخطوات الأولى لميلاد التعبيرية التجريدية. وعن معرض لون الحرية (2009) كتب عز الين نجيب " الفنان محسن عطيه في معرضه بقاعة إكسترا بالزمالك : " يبدو محلقا في هالم كونى إذا جاز التعبير ، بمعنى أنه عالم فوق الواقع..، وإن كانت عناصره تدور داخل النفس وتعكس شجون الباطن ،لتصبح مساحات الألوان وحركة الخطوط الديناميكية متحررة من عنصرى الزمان والمكان ، ومن ملامح الواقع. وتشكل نسيجاً جماليا في رؤية بصرية تحتلط فيها الحالة النفسية للفنان ووعيه الباطنى بالنوازع الإنسانية المطلقة. في اندفاع غريزى يتصادم مع كوابح سيكولوجية أو سوسيولوجبية، فينتج في النهاية ذلك التوتر الدرامى، بين الذات والخارج وبين الأنا والآخر...، وقد استدعت هذه الحالة الدرامية وجود بناء جمالى باللوان والخطوط قادر على التعبير عنها:فكثر في لوحات التضاد بين الألوان.. لكنها ثنائيات تتماهى في بعضها البعض أكثر مما تتقاطع. كانما تؤدى كل منها إلى الخرى كوجهين لحقيقة واحدة، وهو ما يعبر بصدق عن التغلغل الباطنى بداخل الفنان ، والحال نفسه تحققه الخطوط المحددة بوضوح حينا أو التى تتداخل في ثنايا النسيج العام للوحة حينا آخر."(5) كذلك قى لوحات الفنان "محسن عطيه" التى عرضها بقاعة "إكسترا بالزمالك (2010) بعنوان "ألوانى -ارتجالاتى" يحتفل بالارتجال بتحرير أسلوبه من المراقبة العقلانية ومن قيود المعتاد معتمد على قوة التلقائية والتلوين العفوى المتوهج ، نلاحظ كيف انصهرت في الأعمال الفنية الرؤية البصرية بالرؤية الخيالية، واختلط الواقع بالفن حيث أن الجانب اللامرئى من العمل الفنى يضيف إلى المرئى سرا من أسرار التناغم. "فنجد الفنان قد عبر في إحدى لوحاته "المرأة الحصان" ( 2009 ) عن لقاء تشكيلى تم بين الحصان والإنسان في رحلة حسية وجميلة. رسم الحصان بخطوط مرنة، وجعله يبدو كأنه يتجول ويتغلغل في المساحات ليظهربوضوح في مساحة، وغامضا في مساحة أخرى..، من الارتجال عاد إلى الذاكرة البصرية الصورية، وجمع في الأسلوب الفنى بين قصد الإضافة والارتجال اللونى، وبين تأمل مايستنتج من الإيحاءات الشكلية للمساحات .. جاء ذلك في لوحات توحى بالمشهد المكانى المكون من البحر والسماء والأرض وكثبان رملية وأشجار، فنجد أن المشهد المكانى وجماليته انطلق من ذاكرة الفنان، ومن رصيد مخزونه البصرى. وهذه الحالة توضح أنه من الممكن أن تكون بداية العمل الفنى تجريدية وارتجالية بدون تخطيط مقصود من الفنان، وأن ما أضافه الفنان أو استنتجه من الإيحاءات الشكلية أعاده إلى الذاكرة. وهذا المخزون كان ينتظر فرصة ليطرح نفسه ، حتى ولو ضمن مساحات لونية تجريدية وارتجالية." (6)

_____________________________________________-

المراجع:

Hobbs, Robert C. "Early Abstract Expressionism and Surrealism".- 1

Art Journal 45.4 (1985,p . 299

2- محسن عطيه: القيم الجمالية في الفنون التشكيلية،دار الفكر العربى. القاهرة2010، ص222.

3- المرجع السابق: ص230.

4-محمد حمزة ، صحيفة "الجمهورية" ، القاهرة العدد 29 الخميس16 فبراير 2006.

5- عز الدين نجيب مجلة الحوار "الحوار " العدد الثانى،القاهرة 1مايو 2009.

6- سوزى شكرى،صحيفة روز اليوسف، القاهرة العدد1452،4إبريل2010