الفلسفة/الأخلاق/الأزمنة القديمة/أخلاق الرواقية
هي مدرسة عرفت نجاحا كبيرا ، فقد تأسست بحسب القول التقليدي من قبل "زينون السيتيومي" حوالي عام 300 ق. م ووضع نهجها "كريسيب" حوالي 250 ق. م وامتدت حياتها بصورة فعالة حتى القرن الثاني بعد الميلاد عبر أفكار "سينيك" و "إيبيكتيت" و "ماركوس أوريليوس" حوالي 160 ب. م ، واثرت الرواقية في تأملات مختلفة عن بعضها كل الاختلاف كتأمل كل من "ديكارت" و"باسكال" و "كانت" و "مين دي بيران" وذلك فضلا عن غير الفلاسفة من امثال "كورناي" و " فوفنارغ" و " فينيي" و " ميتيرلينك" . وقد يميل المرء للوهلة الأولى إلى ربط هذه المدرسة بالمذهب الطبيعي ، نظرا لكونها مبنية على اعتبار " فيزيائي" خاص للعالم وتؤدي إلى هذه القاعدة العامة : ( يجب العيش وفقا للطبيعة ) ، ولكن من السهل أن نلحظ أن "فيزياءها" المذكورة هي ماهيتها "ميتافيزياء دينية تقريبا" تنتمي إلى ميتافيزياءات النظام المنسجم للكون ، وإن "الطبيعة" فيها ( سواء في ذلك طبيعة الفرد أو طبيعة العالم ) هي الفاعلية العقلانية الشاملة الوجود والتي تبعث الحياة في كل ذرة من "الكل", فالكون بالنسبة للوراقي "إلهي" بأكمله لأنه وليد " نفخة" أو " نار" هي في الوقت نفسه الإله والعقل والحياة معا وكل كائن ( ولا سيما الإنسان وروحه ) شرارة جزئية منها ، اما المادة فليست سوى تثاقل انتقالي في هذا "التوتر الخلاق" فهي ليست مبدأ يعارض الذكاء الأعلى ولكن مجرد حالة دنيا لهذا الذكاء . ولعل المفهوم القديم للوحدة الداخلية للأشياء يسود على أوضح ما يكون في الرواقية وهي تلك الوحدة التي تجعل الكون يشكل جسما واحدا عظيم الإتساع أو تكتلا منظما "يتضافر" كل ما فيه في سبيل هدف واحد ويتلاءم كل عنصر فيه مع مجموع العناصر الأخرى تبعا لنظام عام ، فالحكمة والحالة هذه تعمي فهم هذا النظام وتقبله وما هو خير من ذلك المشاركة فيه طواعية واختيارا من صميم الفؤاد ، وأن يعثر المرء من داخل نفسه على الوحي الإلهي الذي يتولد عنه كل شيء ثم يطور هذا الوحي ويقيه من كل هوى أو انانية أو رغبة ، أي من كل ما هو "مادة" ، وينبغي أن يكرر القول بأن المادة ليست سوى تخدر موضعي في النار الكلية شبيه ( وهذه حالة من يرفض التعاون مع النظام ، أي الكافر أو الفاجر ) بالدوامات التي تتشكل في مجرى النهر وتحاول أن تجعل من نفسها "افرادا" مستقلة . وهكذا فإن الفضيلة تستند بشكل ماهوي إلى فعل وحيد هو التقبل النهائي للنظام وهو فعل شبيه باللطف "الإلهي" المسيحي من حيث أنه يحول طبيعة الكائن ويمنحه دفعة واحدة ذلك الثبات ... ذلك التجانس الداخلي ... ذلك التوافق الذي كان يفتقده مع العالم طالما كانت الأهواء هي التي تقود الكائن .. وقد استنتجت الرواقية من ذلك (وبصورة منطقية تماما) نتائج تظهر فيها المفارقة كل الظهور وكثيرا ما كانت الطبيعة المتكبرة ( كذلك الصعوبة الميتافيزيائية فيها : من اين نبعت البادرة الأخلاقية أي ذلك الانضمام التلقائي إلى النظام ؟ .. فإن كل مشكلة الحرية الإنسانية - وهي المشكلة التي لم تستطع الرواقية ابدا اعطاء حل مرهق لها - تكمن في هذه الصعوبة ) ، تضع النتائج موضع الانتقاد . ليس هناك قياس مشترك بين الحكيم والاخرين كما لا يوجد " نصف فضيلة" فالفضيلة إما أن تكون كلاَ واحدا كاملا وشاملا أو ألا تكون على الإطلاق ( من هو حكيم مجنون ) ، أما الفضائل الجزئية فتشكل مجموعة واحدة ومن لا يمتلكها بأجمعها فهو لا يمتلك أية واحدة منها ، كما أن من يمتلك واحدة منها ما سبق فإن الإقفال أقل أهمية من الروحية التي ترافق القيام بها لأن اتفاق الإرادة مع ذاتها وثباتها الداخلي العقلاني يشكلان ماهية ما يفرق بين الحكيم والشخص العادي البسيط ، واخيرا فإن المثل الأعلى القائم على "المشاركة في الإله" يقود الرواقي إلى اللامبالاة المنهجية بكل ماهو "جزئي" وإلى الانعزال بالتالي عن العلاقات العائلية والاجتماعية وهذا افحساس يبدو للكثيرين غير منسجم مع الطبيعة الأصيلة للأخلاقية . وفي الواقع فقد خفف الرواقيون عمليا بعض المتطلبات المنطقية لمبادئهم بغية تسهيل التأثير على معاصريهم ، فأدخلوا إليها أولا مفهوم الأفعال "المفضلة" و "الملائمة" التي تتيح ممارسة سلوك " شبيه" بسلوك الحكيم الحقيقي دون أن تشكل الفضيلة الحقيقية ، ثم عمدوا بعد ذلك إلى تطوير فكرة كان منهجهم يحتويها بصورة ضمنية ، وهي فكرة أن جميع البشر( بما فيهم الغرباء والعبيد ) اخوة بإعتبارهم جميعا وليدي نفس النفخة الإلهية ، مما كان من شأنه تعبيد الطريق لأخلاق اجتماعية مستوحاة من نظرة بشرية جامعة ومحبة للإنسانية مختلفة كل الاختلاف عن الاعتكاف المترفع الذي يستنتج من مذهبهم نظريا لدى اعتباره من زاوية أخرى وألحوا أيضا على الجانب الديني ( الذي يستطيع شمول جميع العبادات ويأذن بالصلاة ، ذلك الفعل المعبر عن التواضع الواثق تجاه " الفاعلية المهيمنة" ) وهو الجانب الذي تتضمنه فكرة العقل الكلي ، واشاروا اخيرا إلى المعنى الأخلاقي للإستقلال الذاتي الداخلي ( لا تتوقف الفضيلة والسعادة الأ على الرأي الذي نحمله عن الأشياء ، وهذا الرأي من فعل ارادتنا وحدها ) كما اشاروا إلى باطل الخيرات المزيفة كالثراء مثلا ( مما يجب ألا يستعمله الحكيم إلا كما يستعمل أثاثا في فندق ) ، وإلى عظمة الإستسلام الرفيع أمام الشقاء ، الموت ، الظلم . وكان هذا المظهر الثلاثي والأخير هو الفكر الرواقي فأثر في 2000 عام من التأمل الأخلاقي وهو الفكر المغلق من ناحية أخرى أمام مشكلة الإمكانيات الواقية للإنسانية المتوسطة الضعيفة.