الفلسفة/الأخلاق/الأزمنة الحديثة/مونتاني وباسكال
إذا لم نشأ النظر إلا إلى المذاهب التي لا يزال تأثيرها محسوسا حتى اليوم فليس هناك من في أن نتاج "مونتاني" هو الذي افتتح التامل الأخلاقي "العلماني" في العصور الحديثة وهذا النتاج يبعث على التوجس للوهلة الأولى، إذ اننا نرى الوجه الذي يظهر فيه "مونتاني" يختلف اختلافا كبيرا، عبر جميع صفحات كتابه "الأبحاث"، فهو رواقي أحيانا أحيانا ( يستلهم "إيبيكتيت" و"سينيك" بشكل ) ويحتقر الألم والموت وبيروني " نسبه إلى بيرون" أحيانا أخرى في مؤلفه المشهور "تبرير ريمون دي سيبوند" الذي يندد فيه دون أسانيد بعجز ملكاتنا وبطلان معارفنا المزعومة مع عجرفتها، ويبدو لنا تارة أبيقوريا معتدلا قاعدته الوحيدة أن يقطف جميع الورود الموجودة في متناول اليد ثم يبدو اخيرا محافظا براغماتيا ( مشمئزا من الجدة مهما كان الوجه الذي تحمله)، يؤمن بالسنه الموروثة وب "الأسلوب العام" بيد أن هذا التنوع لديه ليس إلا ظاهريا يخفي ورائه في الواقع قناعة راسخة : فهناك نظام طبيعي لا ريب في أنه من مشيئة الله ( على الرغم من أن مسيحية مونتاني مستترة فلا مجال للشك فيها )، ويوجد لهذا النظام أسباب عميقة كما أن له غايات إلهية اما عقلنا المعرض للخطأ فلن يتمكن ابدا من معرفة أي شيء بصورة اكيدة ويجب باسم التسائل القطعي (ماذا اعرف ؟) ادانة الملحدين، ولكن أيضا ادانة المتعصبين والمصححين من كل نوع، كما تتحتم باسم نفس هذا التساؤل أيضا القاعدة الأخلاقية الوحيدة "الإستسلام للطبيعة" كما خلقها الله مع احترام تلك المقاييس الاجتماعية والسياسية إلخ - التي يبرهن قدمها على صحتها وبالتالي الإفادة بكل الارتياح من جميع المسرات والخيرات التي تستطيع هذه الحياة تقديمها لنا، والهرب من القسر والإحتراس من تلك العواطف اللاطبيعية كالتعطش إلى الثراء وعدم الثورة ضد الموت والألم لأنهما ضرورتين طبيعيتين ( وهذا هو المظهر الرواقي لفكر مونتاني ) . لا ريب اذن في ان هذه الخلاق تنتمي - بأساسها الخفي إلى زمرة الخلاق العلوية، ولكنها من التحفظ وبهجة الطابع بحيث لا يمكن اعتبارها إلا كمجموعة مبادئ تخص "الرجل الصالح "ذا التطلع المحدود بعض الشيء أو كفن سطحي ( لمعرفة كيفية الإستمتاع شرعا بوجودنا ). وقد جرى التقليد على التقريب بين اسم باسكال واسم مونتاني الذى كان مصدر وحي كبير بالنسبة إليه ولكن باسكال ليس في الواقع ذا مذهب اخلاقي وليس حتى فيلسوفا بل هو عالم ومترافع عن الدين المسيحي، ولا يمكن تسميته "اخلاقيا" إلا من حيث كونه رساما للأخلاق الممارسة، أو بصورة ادق لما يسمى اليوم ب "الوضع البشري"، وفي الواقع فقد اقتبس من هذه الناحية الكثير من "الأبحاث" - كتاب مونتاني - على أنه اسبغ عليها طابعا تشاؤميا بهدف الإمعان في ابراز ضعف الإنسان وقابليته للعطب، فمخيلة الإنسان تخدعه باستمرار وهو حبيس متطلبات التلاؤم من كل نوع، ويعجز عن الحكم على نفسه بنفسه، كما أنه عبد لاهوائه "الترفيه" التي يحاول عن طريقها الهرب من ذاته . ولكن باسكال يضيف قائلا إن مونتاني قد حط كثيرا من الإنسان كما بالغ الرواقيون وديكارت في المقابل بتقدير عقله، اما الإنسان الأصيل فهو مركب غريب من البؤس والعظمة ولا يستطيع تفسيره سوى المذهب المسيحي وحده الذي يكشف فيه عن الكائن الذي اسقطته الخطيئة ولكنه مع ذلك "ينتج من اجل اللانهاية" . وليس ما يتفرد به باسكال استنتاجه "اللاهوتي" ولكن بالأحرى طرائقه التي يبغي بواسطتها اقناع قارئه، وذلك على سبيل كمبدئه الذي ينص على أن لكل مجال منهج خاص به، وبالتالي فإنه يجب على العقل المتفوق القوة في مجال الرياضيات أن يخضع في مجال اللاهوت إلى سلطة السُنه الموروثه أو تلك الفكرة "العميقة" التي قوامها أن ارادة الإيمان تقود إلى الإيمان إذ لا يمكن في الغالب الانضمام إلى مذهب إلا عن طريق الأفعال ( حتى غير الصادقة منها في البدء ) فهي التي تولد - دونما شعور - القناعة ووحدة السلوك . وهناك على سبيل المثال أيضا تمييزه الأساسي بين "الرتب الثلاث" ( جميع الأجسام لا تساوي أضأل روح من الأرواح ... وجميع الأجسام والأرواح معا لا تساوي أضأل بادرة احسان ) ولعل هذا التميز يشكل اليوم أكثر من أي وقت آخر أوقع تعبير عن ماهية أية اخلاقية .