الفلسفة/الأخلاق/الأزمنة الحديثة/الديكارتيون المنشقون/سبينوزا

تبدو لنا فلسفة سبينوزا (المتوفي عام 1677) من العديد من الزوايا كإشتقاق مستنبط من الديكارتية وكإفقار لها في الحين نفسه ، فمن ناحية أولى في الواقع نجد أن "ثنوية" ديكارت تتحول فيها إلى "واحدية"شمولية الألوهية ، وعلى ذلك فليس الجسد والروح سوى مظهرين ( لا يبدوان متميزين إلا من وجهة نظرنا الإنسانية البدائية والمحدودة معا) تتجلى بواسطتهما حقيقة واقعية واحدة هي وحدها الحقيقة الأصلية ( نستطيع تسميتها الإله ، أو الطبيعة, أو الجوهر اللامتناهي ) وهي تتجلى تلقائيا وبالضرورة تحت ضغط "ميل توسعي" خاص بها ومن ناحية أخرى فإن الأخلاقية السبينوزية الشهيرة ليست أي شيء آخر سوى التطور المنهجي لفكرة كانت على درجة ثانوية من الأهمية في الأخلاق الديكارتية ، وهي فكرة أن الفرد متوقف بصورة كاملة على النظام الإلهي . أما لدى سبينوزا فإن الإنسان يبدو كعنصر فحسب ، اضطراري ومؤقت ، من عناصر سير الطبيعة - الإله . وهذا ما ينتج عنه أن الاعتقاد بحرية الإرادة الإنسانية ليس إلا وهما وأنه ليس في الكون ما هو صالخ أو سيء بالمعني الدقيق للكلمة وأن العالم بما فيه ادق تفاصيله ، هو - ولا يستطيع أن يكون إلا - ما يحتويه الجوهر الإلهي . على أنه يوجد مع ذلك حكمة ، كما يوجد مثل أعلى للكمال ، أما قوامهما فهو الاندماج عن طريق الفكر بشكل متعاظم الوضوح باستمرارمع النظام الخالد ، وفهم هذا النظام والخضوع له بإندفاع بهيج . ومن هنا يتاتى ذلك المظهر الإنتفاعي أحيانا والصوفي أحيانا أخرى والذي يتميز به التامل السبينوزي ، ذلك أن شمولية الإله التي تبرر كل شيء تدعونا إلى عدم احتقار الخيرات الأرضية ، وهي الخيرات الصادرة عن الإله ( فالفرح صالح ، والحكمة " تأمل لا في الموت بل في الحياة" ، وكذلك فإن من فعل الرجل الحكيم استخدام الحياة والإستمتاع بها ما امكن ذلك) ، ولكن شمولية الإله تحثنا أيضا على التحكم في اهوائنا وعلى الهرب منها في سبيل التمكن من تكريس النفس إلى ذكل الحب العقلي المنزه عن الغرض ل " الإله - الكل" ، وهذا هو التعبد الوحيد الذي ينبغي أن نقدمه له ( لأن الأهواء تميل إلى ربطنا بمظاهر في الكون عابرة وجزئية ، وإلى تفريقنا بالتالي عن الإله ) . وهكذا فإن العيش عقلانيا والعيش اخلاقيا هما إذن مفهومين متماثلين كل التماثل معناهما الانصياع الفعال للنظام ، وبذلك يصبح الإنسان "حرا" بصورة حقيقية ، طالماأنه يشكل أحدا واحدا مع طاقة الخلق الكلية . كما يصبح أيضا "خالدا" بصورة حقيقية ، وليس خلوده ذلك الخلود العبثي الكاذب الذي وعدت به الأديان ، بل انه ناجم عن كونه يشارك منذ هذه الحياة في "الكائن الراسخ" . أما الحكيم فإنه يتصرف في الواقع العملي بصورة يحب الله فيها عبر الناس فهو متواضع إزائهم ومتسامح ( لأنه يعرف الجبرية الكلية التي تجعله يفهم اخطائهم ) كما أنه لا يحمل احتقارا أو ضغينة ، ويخضع دون نقاش - من الناحية الاجتماعية - للقوانين السياسية ، فهي صدى الضرورة الإلهية طالما أنها لا تقود الناس على الأقل إلى الانقسام والحقد . أما إذا حدث ذلك فهو البرهان على عدم "ملاءمتها" . ولكن هذا التحفظ الأخير يوضح بجلاء الخطأ الأكبر لهذا المذهب الجدير بالإعتبار كل الجدارة ، الشديد واللين والشامل في آن واحد ، والذي اثر في الكثير من المفكرين ( خاصة الألمان ) . أما هذا الخطأ فهو التبرير المبالغ به للإنصياع وللإنفعالية الأخلاقية إلا إذا تقبلنا دون جدال أو نقاش عقلاني ( كما فعل سبينوزا على أي حال ) ما نسميه " احكاما على القيم" وهي احكام ينبغي على هذا المنهج أن يرفضها بحسب منطقه الخالص ، ولكنها تتكشف عن كونها لا يمكن الإستغناء عنها فيما إذا رغبنا أن نحتفظ في الأخلاق بمفهومي " الجهد" و " المبادرة الفردية" .