التأثير الروحي للفن في عصر النهضة
بقلم :د. محسن عطيه
الفن والقوى الغيبية
كان التأثير الروحي للأساطير في فن عصر النهضة يشكل مسار الفن، وهو وراء عظمة اللوحات الجدارية الشاهقة والتأثيرالروحي للمطبوعات الصغيرة، بل أن الأساطير كانت تشكل شريان الحياة لفن عصرالنهضة، والذي لا يزال يأسرنا حتى اليوم. فلم تكن السرديات القديمة للآلهة والإلهات والمخلوقات الأسطورية مجرد عناصر زخرفية في فن ذلك العصر، بل كانت رمزية للغاية، تكشف عن رؤى الفنانين للطبيعة البشرية والأخلاق وأسرارالكون. ولقد نسج فنانون ببراعة ‹موضوعات أسطورية› في أعمالهم، مما أدى إلى خلق حوار بصري يعكس المناقشات الفكرية والفلسفية في عصرهم. واستخدم هؤلاء الفنانون قوة الأسطورة لإثارة الفكر، وإلهام فهم أعمق للعالم. ولا تزال ‹الموضوعات الأسطورية› في هذه الأعمال تتردد صداها، وتذكرنا بالتجارب الإنسانيةالخالدة،ومنها:‹الحب›،و‹الخسارة›، و‹الطموح›، والسعي وراء المعاني التي تتجاوز الحدود الثقافية والزمانية. كذلك يتعلق الأمر بفهم تعقيدات النفس البشرية، والديناميكيات المضطربة للمجتمع، والأسئلة الأبدية للوجود، وبتقدير جمال وقوة الفن باعتباره قناة للأفكار والعواطف والأسرار العميقة للحياة. ورغم اختلاف طريقة الحياة اليوم عن «عصر النهضة»، إلا أن ثقافة اليوم ليست بعيدة عن أفكار «عصر النهضة» أو عن تأثير القوى الغيبية. فلا تزال الأحداث الخارقة للطبيعة والعناصر الصوفية الأخرى عادية في الثقافة الشعبية اليوم، بل إنها في الواقع تُظهر تشابهنا مع اهتمامات «عصرالنهضة» بالغيبيات . ورغم تكرار الإدانات للسحر في كتابات الفيلسوف الألماني واللاهوتي ألبيرتوس ماجنوس [1193-1280] Albertus Magnus من العصور الوسطى، غير أنه يصرح في كتاباته العلمية «بالتأثير السحري للنباتات» ، ويكتب عن الفعالية السحرية للأحجار والنقوش. ويميز بين وصفات السحر باستخدام الرموز الفلكية للأجرام السماوية، والعمليات المستنكرة للسحرالأسود (التي تلجأ للقوى الشيطانية). وكانت ممارسات السحر والغيبيات خلال فترة «عصر النهضة» [القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين]، قد عكست التحولات في وجهات النظر الثقافية والفكرية والدينية. وفي «عصر النهضة» أصبح تصويرالموضوعات الغيبية والخيالية، أكثر تعقيدًا ومرتبطًا بفكرة المعرفة الخفية التي يمكن استكشافها من خلال الكتب والطقوس.
ومن الوجهة النفسية تعتبر«العمليات السحرية» مجرد تطبيق للقوانين النفسية في مجال تداعي الأفكار ، وهي الآلية نفسها في كل تفكير.«وتتصل بهذه الفكرة ممارسة صور الأشخاص والتماثيل وأيضاً الدرامة والرقص والتعبير الإيمائي الذي يقلد عملاً من الأعمال. وعلى هذا النحو يهدف المؤمنون إلى إحداث غايات نفعية: الانتصارعلى عدو، الشفاء من مرض، خصب حصاد.»[1]
و من المعتقد في ذلك الوقت أن استخدام الاستعارة ينتج عنه الصيغ المقدسة الخاصة باستدرار ‹الغيث›، أو المتعلقة بتحقيق ‹النصر› أو بتوفر ‹الخصوبة›. وبفضل انتقال الصور بالتداعي يمكن ان تحل الإشارة محل الشيء وتكتسب قوة سحرية.
الوظيفة الروحية للفن
وهناك العديد من الأعمال الفنية ضمن تراث الفن في «عصر النهضة» ليست مجرد أمثلة على الابتكارات في الرسم والنحت، ولكنها أيضًا أنجزت لأغراض سحرية. ويُعتقد أن اللوحات الشهيرة للرسام ساندرو بوتيتشيلي[1445-1510] التي تصور شخصية ‹العذراء› ، مثل لوحة ‹بشارة العذراء مريم› (1490) تمتلك قوى سحرية وحامية، بل أن هذه اللوحة بالذات كانت تحرس فلورنسا، في وقت الخطر، وفي نفس الوقت ساعدت في إحداث تغييرات ومعجزات. ومن المعروف عن بوتيتشيلي قوة تمثيل العواطف في لوحاته. وقد «انعكست على صور أعماله أحزانه في الحياة، فاكتسبت شيئاً من الأسى الساكن.»[2] وتتجلى براعته في دينامية أسلوب الرسم ورهافته، حيث منح الأجسام ‹استطالة›، وتحركت وكأنها ‹تنزلق› على الأرض، وتكاد تلمسها بصعوبة. وقد رسم بوتيتشيلي صورة العذراء، كرمز جوهري للحسية، يجسد فضيلة ‹الطهارة›. وأظهرها في مكان منعزل، ليشير إلى عفتها. وهي تتلقى ‹النبوءة› برضا، وبإرادة حرة واختيار، وتظهر الإيمان وقبول مصيرها، مثل إناء نقي النية، وقد استجابت للدعوة. إنها تمثل «الشعور الخالص والحب المحض، فهي تزيد على كونها العذراء التاريخية بأنها الحنو الأبدي.» [3] وتكمن جاذبية اللوحة في حقيقة الشعور بقدسية الفن، وبالفنان الذي يقدم لنا الإلهام. وكان يُنظر إلى الفن في الماضي، باعتباره مهنة روحية. ومعظم الفنانين كانوا يتمتعون بقناعات دينية وروحية عميقة، وجمال أعمالهم يضيء تفانيهم. ولوحة "البشارة"تنقل شيئاً عن ‹علم الكون الباطني› لطبيعة التجلي، والعقل و‹الحقائق الباطنية› أو ‹الصوفية› . و«كثيراً ما تكشف طرق التحليل النفسي عن العلاقة التي تربط بين إبداع الفنان وحياته الخاصة، وقد قدمت في ذلك المجال نتائج لا سبيل إلى إنكار قيمتها.» [4] ومفهوم التسامي يعني بالنسبة للنشاط الإبداعي تحويل المعاناة إلى نشاط فن، ليسمو الفن بالغرائز إلى العالم الروحي. من الناحية النفسية، تمثل صورة ‹بشارة العذراء مريم› رمزا للبشارة، وبهذا المعنى، فهي أكثر بكثير من مجرد سرد للمشهد التوراتي . وفي سياق لوحة بوتيتشيلي للسيدة العذراء الشابة. وقد تستدعي فكرة الفن باعتباره شجرة تنمو في تربة مغذية، الفن الذي «يمكن أن نقارنه بطفل ينمو في الرحم.»[5]
التجدد النفسي عبر تجربة مقدسة
فإن الأعمال التي تحمل رمزية تعني أكثر مما تقول، ويظل الرمز تحديًا دائمًا لأفكارنا ومشاعرنا. وربما يفسر هذا لماذا يكون العمل الفني الرمزي محفزًا، ولماذا يجذبنا بشدة. إذ إن اللوحة ليست مجرد مصدر للمتعة الجمالية البحتة، إنما تلمح برمزيتها إلى معنى يتجاوز مستوى الفهم العادي. وعندما نتأملها تخبرنا عن الطبيعة النفسية للبشارة وأهميتها للبشرية. وقد منح الفنان صورة العذراء في لوحة «البشارة» تعبيرا نابضا بالحياة تعززه حسيتها الشبابية ولغة جسدها العاطفية. أما ‹الحمل العذري› فيمثل استعارة أساسية للطبيعة المتجددة للنفسية. وقد جاء محتوى اللاوعي [الطفل] إلى الوجود دون مساعدة طبيعية من بشر [الوعي]. كذلك النفس العذراء تتجه نحو الشمس الداخلية، بطريقة تشبه التوصل إلى رؤية جديدة، ربما من حلم أو حدس، وكأننا قد «رأينا النور».فإن الوحي هو تجسيد، ولكن الصورة تظهر لنا أن التجديد النفسي و البصيرة يولدان من تجربة مقدسة. لقد استسلمت العذراء في اللوحة للحظة ‹التجسد الإبداعي› التي تغير الحياة. وعندما يعاني الإنسان من القلق يجد السلام داخل بيت البشارة، فيختبر أن ‹الإبداع› يتطلب تجربة مذهلة للمعرفة. وكل الحدس والرؤى والتخيلات النشطة لها واقع محسوس بقوة، حتى عندما تبدو لا معنى لها. فعلى المرء أن يختار طريقاً يتوافر فيه «الطابع الإبداعي»، حيث توجد عملية نمو تتمتع بنوعية «الوحي».
*****
1-شارل لالو، الفن والحياة الاجتماعية، تعريب عاد العوا،دار الأنوار، بيروت1966،ص284.
2-محسن عطيه: الفن والجمال في عصر النهضة،عالم الكتب القاهرة 2002، ص78.
3- الكسندر اليوت : آفاق الفن ، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979، ص105.
4- محسن عطيه: غاية الفن -دراسة فلسفية ونقدية،دار المعارف بمصر 1991، ص162.
5)C.G. Jung, “On the Relation of Analytical Psychology to POETIC ART, British Journal of Medical Psychology. Firs- published: August 1923